الطاعة



 

لماذا تحولت الأمة الإسلامية إلى أمة ضعيفة إلى هذا الحد المخيف على الرغم من وعد الله تعالى لها بالنصر والفوز على الأعداء!؟  

الجواب الذي لا يخفى على أحد هو أنَّ المسلمين قد تركوا العمل بالآية الكريمة في قوله تعالى: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" (سورة النور: 53).

لقد ابتعد المسلمون عن طاعة أوامر الله تعالى، وأصبحوا يشركون بالله بسبب مداهمة فتنة المسيح الدجال أكثر بيوتهم، وصار شعارهم التكبر والعصيان، قال تعالى: "قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ" (سورة الأعراف: 17-18)

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) هو المكث، ليس على حقيقة القعود، ولكن على المنع عن السلوك في الطريق أو على التلبيس عليهم الطريق المستقيم والستر عليهم؛ لأن من قعد في الطريق منع الناس عن السلوك فيه.

قيل (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قبل آخرتهم، فلأخبرنهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث.

(وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من قبل دنياهم: آمرهم بجمع الأموال فيها لمن بعدهم من ذراريهم وأخوف عليهم الضيعة، فلا يصلون من أموالهم زكاتها، ولا يعطون لها حقها، (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) من قبل دينهم، فأزين لكل قوم ما كانوا يعبدون، فإن كانوا على ضلالة زينتها لهم، وإن كانوا على هدى شبهته عليهم، حتى أخرجهم منه، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) من قبل اللذات والشهوات فأزينها لهم.[1] فالأصل هو (طاعة الله ورسوله لأنَّ جميع أنواع الفلاح منوطة بذلك، والأمة التي تتمتع بروح الطاعة تنجح رغم ضعفها، أما الأمة التي لم تبق فيها روح الطاعة فتفشل رغم كثرة عددها.)[2]

هذه الفتنة سيطرت على أكثر شعوب العالم ابتداء من الأبناء إلى رب الأسرة، إلى رب العمل مرورا برب المؤسسة أو الدولة عن طريق التشجيع والتحريض والحث على العصيان والتكبر وعدم الطاعة. فقد باتت الأغلبية من أفراد المجتمعات في عصرنا الحالي تعيش حالة من الفوضى الفكرية والأخلاقية، والصفة التي تغلب على فكر هؤلاء هي التشويش الكامل. إنهم يحاولون اكتشاف شيء جديد، أو يبحثون عن قانون جديد، أو دين جديد يتضمن سلوكاً جديداً أفضل، وأكثر إرضاء لهم، وهم يعيشون تناقضاً واضحاً لأفكارهم الدينية الموروثة، وحقائق طبيعة الحياة الحديثة، والسبب يعود إلى اختلاط الشعوب بعضها ببعض، فاختلطت معهم ثقافاتهم ودياناتهم، فوجدوا أنفسهم ضائعين تائهين بين فترة زمنية عاشوا فيها مع آبائهم وأجدادهم وعاصروهم (لا تتجاوز مئة عام) وبين هوة التفجر الحضاري والتكنولوجيا التي نشؤوا تحت ظلالها، فلمسوها وتبينوها وأعجبوا بها، أو ما يُسمى بمصطلح (الفتنة)، أي: فُتنوا بها، فانقسمت المجتمعات إلى اتجاهات شتى، فالقلة القليلة التي لا يزال أبناؤها يتمسكون بموروث آبائهم، ويتقدسون به، أو بمعنى آخر ما زالوا يسلكون السلوك الأخلاقي السامي، ولكن، من المؤسف القول بأنَّ الأغلبية من أفراد تلك المجتمعات قد رفضت وثارت على موروث الآباء.

هذه النتائج المزرية يعود سببها إلى ابتعاد الآباء عن القدوة الحسنة، ومن ثَمَّ ابتعاد الأبناء عن طاعة آبائهم، فغدا (الآباء يأكلون الحِصْرِم والأبناء يَضرَسون)[3]

لقد ترك الآباء العمل بالحديث الشريف التالي: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)[4]

وهكذا انتقلت عدوى عدم الطاعة إلى بقية الأفراد في المجتمعات بسبب دخول الحضارة الحديثة في حياتهم، فأخذوا منها ما يناسب أهواءهم، فابتعد المرؤوسين في أماكن عملهم عن طاعة رؤوسائهم، وتركوا العمل بالحديث الشريف: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ )[5] فابتعدت أغلب المجتمعات عن كل ما يتعلق بالخُلُق والأخلاق، فبات أفرادها يحذون حذو طبائعهم الحيوانية، واتبعوا كل طريقة جديدة حديثة تلبي احتياجات فكرهم ومأكلهم وملبسهم، فغدوا أكثر وقاحة وتنمراً، فانتشر المجرمون والبغايا في كل مكان، وانتشرت معهم ثقافتهم ونظرتهم المادية الممعنة في الأنانية واللهث وراء حبُّ الحياة الدنيوية، والتمتع بها قدر المستطاع. وهنا يظهر إعجاز القرآن الكريم، ويقف كالمارد متحدياً النظريات الاجتماعية التي تسعى إلى إصلاح الفرد في أي مجتمع، فآياته صالحة لكل زمان ومكان، وتنطبق على البشر جميعاً، فالله سبحانه وتعالى قد فتح طريق التوبة أمام أي إنسان لإصلاح نفسه في كل وقت، وفي أي وقت، قال تعالى: "ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" (سورة النحل: 120).

بفضل التكنولوجيا الحديثة لم يعد أي فرد من أفراد العالم جاهلاً؛ فكل إنسان أصبح مطلعاً على كل شيء له علاقة بما يدور حوله من أمور سياسية واجتماعية ودينية...، في قارات العالم كله، وقد بات هذا الفرد يعرف معرفة تامة، ويعلم علماً يقينياً عن مبادئ أو سلوك الأخلاق وتعاليمها، وعن ماهية الأخلاقيات وطرائقها، بل وأصبح معلماً وأستاذاً وقدوةً لأبويه اللذين قد أنجباه، ومن ثَّم لمعلمه وزملائه في المدرسة، ولرؤوسائه أو مرؤوسيه في العمل في المؤسسة والدولة التي ينتمي إليهما، فالجهالة المذكورة هنا في الآية الكريمة ليس المقصود بها (عدم العلم، بل تعني عدم العرفان لأنَّ الذي يرتكب الخطأ لعدم العلم لا يعاقَب؛ فالمراد أنَّ الذي يعمل السوء لعدم العرفان أي أنه يعلم أنَّ ذلك العمل إثم ولكنه لقلة التقوى وخشية الله عزَّ وجلَّ لا يضبط نفسه ويقع في السوء يستوجب العقاب إلا أنْ يتوب؛ لأنَّ تقاعس المرء عن كسب التقوى رغم علمه بضرورته يُعتبر إثماً متعمداً)[6]

فيجب على الإنسان أنْ لا يكتفي بما يتلقاه من العلوم الظاهرة التي بين يديه لئلا يتحول إلى إبليس متكبر فيقع في المعاصي ويستحيل عليه الخروج منها في نهاية المطاف.

 

 

 

 



[1] تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة) ( 4/ 372 )، أبو منصور (ت : 333هـ) تحقيق: مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، ط1، 1426 هـ - 2005 م

 

[2] التفسير الكبير: سورة النور

[3] معجم اللغة العربية، د. أحمد مختار، مادة (حصرم) مثل: يُضرب للبريء يُحَمَّل خطأ غيره. وفي الكتاب المقدس  (ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين : الآباء أكلوا الحصرم ، وأسنان الأبناء ضُرِسَت؟) [ حزقيال ( 18 / 2 ]

(في تلك الأيام لن يقول الناس فيما بعد الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون ( 30 ) بل سيموت كل واحد بسبب خطيئته وكل إنسان يأكل الحصرم ستضرس أسنانه) [إرميا: 31 ]

 

[4] صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي (ت 256 هـ) رقم الحديث ( 7138) (9/ 62) تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، الأولى، 1422هـ

 

[5] مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله الشيباني (ت: 241هـ) تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م ، رقم الحديث ( 12126) ( 19/ 178) 

 

[6] التفسير الكبير - (سورة النحل)