الخطاب الذي ألقته رئيسة لجنة إماء الله في المملكة المتحدة الدكتورة فريحة خان في منتدى السلام العاشر الذي عقدته لجنة الإماء يوم 24/01/2019
بسم الله الرحمن الرحيم
"في إنشاء وتطوير أي أمة أو مجتمع، تؤدي المرأة دورًا أساسيًا وحيويًا، حيث تقع مسؤولية تدريب الأجيال القادمة في أيدي الأمهات، فهنّ بناة الأمة"
هذه الكلمات الملهمة هي لإمام الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية حضرة ميرزا مسرور أحمد (أيده الله تعالى بنصره العزيز) عندما خطب بنساء وفتيات الجماعة العام الفائت.
"النساء هنّ بناة الأمة" لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، فهناك بحث أكاديمي واسع متاح يثبت أنه حتى ينمو المجتمع هناك عاملان رئيسيان مهمان يجب أخذهما في الاعتبار، وإن عدم وضع هذين العاملين في الاعتبار هو السبب الرئيس في تباطؤ وتيرة التقدم الاقتصادي والاجتماعي في البلدان النامية. العامل الأول هو الصحة وعلى رأسها صحة الأمهات والمواليد، والعامل الثاني هو تعليم الفتيات.
تقول ميرا بوفينيتش مديرة مجموعة الجنس والتنمية في البنك الدولي:
"عندما تحصل النساء على تعليم وصحة أفضل، تتمتع الأمهات بقدرة أكبر على اتخاذ القرارات في المنزل وإعطاء الأولوية لرفاهية أطفالهن"، وفي المقابل، يتمتع الأطفال بتحصيل علمي أفضل ويصبحون بالغين منتجين، مما يبني النمو الاقتصادي على المدى الطويل."
(https://www.wilsoncenter.org/event/the-impact-maternal-mortality-and-morbidity-economic-development)
نعلم جميعًا أن من المهم تثقيف الفتيات - إنه أمر مطلوب دائمًا للتقدم في كل النتائج التنموية تقريبًا من انخفاض معدل الوفيات إلى النمو الاقتصادي والديمقراطية والعدالة.
لا يمكن إنكار قوة تعليم البنات في النمو الاقتصادي الوطني: فزيادة 1% في تعليم الإناث ترفع متوسط الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.3 % وترفع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بمقدار 0.2 %.
(https://www.globalpartnership.org/blog/why-educating-girls-makes-economic-sense)
هذه هي الكلمات والنتائج التي توصل إليها الأكاديميون والباحثون في مجال الاقتصاد العالمي، فهناك أبحاث تمت على مدى عقود من الزمن وراء هذه البيانات، لكن ماذا يقول الدين عن ذلك؟
في عالم الأكاديميين والخبراء، يُعتبر الدين تخلفًا، وللأسف يساء تصوير الإسلام في الإعلام، لا سيما من قبل أولئك الذين لا يعرفون التعاليم الإسلامية الحقيقية حيث يعتبرون الإسلام من القرون الوسطى وأنه بحاجة إلى الإصلاح حتى "يواكب القرن الحادي والعشرين" وذلك لأنهم يشعرون بأن النساء المسلمات يتعرضن للقمع وإساءة المعاملة بموجب دينهن... وهذا في الواقع أبعد ما يكون عن الحقيقة.
أود الآن أن أتناول هذين العاملين اللازمين لبناء الأمة واللذين ذكرتهما آنفًا وأبيّن تعاليم الإسلام في هذا الشأن:
العامل الأول هو صحة الأمهات: لقد أكد الإسلام بشدة على حقوق الأمهات، فقد أمر الرجال بالاعتناء بزوجاتهم وأن لا يضعوهن تحت أي ضغطٍ اجتماعي أو اقتصادي، فإذا اخترن خوض ميدان العمل يمكنهن القيام بذلك، وإن اخترن رعاية عائلاتهن وإمضاء الوقت في تربية وتدريب أبنائهن فإن مسؤولية الزوج هي تأمين مستلزمات الحياة المادية لعائلته. كما يعلمنا الإسلام أنه في حال عمل المرأة فلا يحق لزوجها أخذ أي شيء من دخلها ولا يتوجب عليها المساهمة في نفقات عائلتها.
وقد تم التركيز بشكلٍ كبير على رعاية الأمهات الحوامل والمرضعات، فحتى إذا تطلق الزوجان خلال تلك الفترة فإن الله تعالى يأمرنا في القرآن الكريم بأن المسؤولية الكاملة تقع على عاتق الرجل في تأمين احتياجات زوجته السابقة والإنفاق عليها أثناء قيامها بإرضاع المولود ورعايته.
ذات مرة جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال ثم أمك، قال ثم من؟ قال ثم أمك، قال ثم من؟ قال ثم أبوك (صحيح البخاري – كتاب الآداب)
وهناك حديث شهيرٌ آخر ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم): "الجنة تحت أقدام الأمهات" (سنن ابن ماجة) وبهذا فهو قد علّم المسلمين جميعهم بأن باب الجنة سيُفتح لهم إن أحسنوا معاملة أمهاتهم وأدوا حقوقهن، ولكنه من ناحيةٍ أخرى قد علّم الأمهات بأنهن يملكن المفتاح لجعل هذا العالم جنة لأطفالهن ولتميهد الطريق لهم إلى جنة الآخرة أيضًا.
والعامل الثاني هو تعليم الفتيات، لقد أولى الإسلام أهميةً خاصة لتعليم الفتيات، فقبل 1400 سنة حين جاء الإسلام كان وأد البنات عادة سائدة في الجزيرة العربية وكانت النساء تعتبر متاعًا يملكه الرجال، فجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا التعليم الجميل حيث قال: "من كن له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وضرائهن: أدخله الله الجنة برحمته إياهن"؛ فقال رجل: وابنتان يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وإن ابنتان"؛ قال رجل: يا رسول الله؛ وواحدة..؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وواحدة". [رواه الحاكم في المستدرك]
إن التاريخ الإسلامي المبكر حافلٌ بقصص نساءٍ لامعات أظهرن حكمة وشجاعة استثنائية وقت الصعاب، وأخريات كنّ باحثات وعالمات بارزات وأعظم مثال على ذلك زوجة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) حضرة عائشة التي كانت تعلم مسائل الدين للرجال. والتي قال عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نفسه "خذوا نصف دينكم من عائشة" (النهاية لابن أثير).
هناك في التاريخ الإسلامي المبكر العديد من الأمثلة التي توضح تميز المرأة المسلمة في مختلف المجالات، ثم يخبرنا التاريخ بأن العالم الإسلامي مر بفترة مظلمة حيث نسي وتجاهل المسلمون التعاليم الجوهرية لدينهم فعانت الأمة الإسلامية من الضعف والتراجع. وفي العصر الراهن نؤمن نحن المسلمين الأحمديين أن المسيح الموعود حضرة ميرزا غلام أحمد (عليه الصلاة والسلام) قد بُعث لإحياء الإسلام، ورأينا النساء يُشجَّعن على التفوق في العلم، ويمكنني أن أؤكد لكم أن أول منظمة مساعدة أسست في جماعتنا هي تلك الخاصة بالنساء والمعروفة باسم "لجنة إماء الله" والتي ستحتفل في جميع أنحاء العالم عام 2022 بالذكرى المئوية لتأسيسها.
كان أحد الأهداف الرئيسية لتأسيس هذه المنظمة هو تعزيز التعليم الديني والدنيوي للنساء الأحمديات، حتى تدرك المرأة قدراتها الحقيقية. النساء الأحمديات ممتنات جداً لهذا لأن هذه المنظمة تمنحنا منبرًا ليس فقط لتعزيز علومنا، ومساعدة من هم بحاجة إلى مشاريعنا الخيرية، ولكن أيضًا للالتقاء معًا والسعي إلى تقديم المشورة لبعضنا بعضًا بشأن مسائل الدين والجماعة، والتصويت عليها لنكون قادرات على تنظيم وتحسين برامجنا مثل برنامجنا هذا وغيره الكثير أيضًا. وعلى نحو مماثل، تشجع جماعتنا دائمًا الفتيات على التفوق في التعليم، وفي كل عام تقدم جوائز التميز الأكاديمية في الجلسة السنوية للفتيات المتفوقات بدءًا من الثانوية العامة وحتى الدكتوراه.
لا يوجد منصة مثل هذه لتعزيز كلياتنا المادية والفكرية.
لقد اعترف الإسلام منذ قرون مضت بأن النساء هن بالفعل بناة الأمة وأعطاهن تلك الحقوق التي كان على النساء من خارج الإسلام أن يناضلن من أجلها حتى وقت قريب جدا. فقد أعطى الإسلام المرأة الحق في الإرث، والطلاق، والتعليم، والزواج، وعلى الرغم مما قد يظنه البعض فإن الزواج القسري لا علاقة له بالإسلام، وإنما بالممارسات الثقافية الجاهلة وعدم الفهم الحقيقي للدين.
ثم هناك عاملٌ مهمٌ آخر هو الجانب الروحي لتطورنا والذي قد لا يدركه من هو خارج عالَم الدين، ولكنه بالنسبة لنا لبِنة أي جماعة دينية، فبالإسلام الوصايا الروحية هي ذاتها للرجال والنساء، والطريق إلى التفوق في الروحانية هو نفسه للرجال والنساء. قال الله تعالى في الآية 125 من سورة النساء في القرآن الكريم:
"وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا"
وفي القرآن الكريم بأكمله، تمت مخاطبة المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية، والأوامر هي لهما معًا والثواب متساوٍ لكلٍ منهما أيضًا.
النساء هن بناة الأمة.. لماذا؟
لأنهن الأمهات ومفتاح تقدم الجيل القادم في أيديهن، فسواء كنت تؤمنين بدين أو لا، أنت تقومين برعاية أطفالك وتوجيههم إلى المسار الذي تعتقدين أنه الأنسب لهم وأين يمكنهم الوصول إلى أفضل ما في وسعهم. فالطبيعة الإنسانية تدفعنا نحو العمل على تحسين جيلنا القادم. والإسلام دين يوجهنا في كل أمر من أمور الحياة ويأخذ في الاعتبار تفاصيل الطبيعة البشرية.
يسيء الناس في بعض الأحيان الحكم على الإسلام ويقولون إنه دين يظلم النساء أو يعتبر المرأة أقل شأنًا من الرجال.. كلا، هذا ليس صحيحا.. الإسلام هو بطل مساواة المرأة مع الرجل. يقول الله في القرآن الكريم إن النساء والرجال قد خُلقوا "من نفسٍ واحدة" فلم تخلق المرأة من ضلع الرجل وإنما تنتمي إلى نفس النوع الذي ينتمي إليه الرجل، وتمتلك قدرات واستعدادات متطابقة لتلك التي يملكها.
لقد أعطى الإسلام المرأة حقوقها مثلما أعطى الرجل حقوقه، وكما قلت آنفًا، الكثير من الحقوق التي كان على النساء من الأديان الأخرى النضال لعدة قرون لتحصيلها، قد أعطاها الإسلام للمرأة قبل قرون طويلة خلت.
على أية حال، يفرق الإسلام بين اختلاف مسؤوليات الرجل عن مسؤوليات المرأة وهذه المسؤوليات الخاصة بكلٍ منهما تتوافق مع قانون الطبيعة.
علينا أن نفخر من حقيقة أننا مختلفاتٍ عن الرجال وبأننا كُلفنا بمسؤولية إعداد الجيل القادم. وهذا ليس أمرًا مهينًا وإنما يعزز تمكين المرأة.. وراء كل رجل عظيم هناك امرأة عظيمة! امرأة أنجبته، وامرأة رعته وامرأة ربته ليكون ما هو عليه الآن.
إن دور المرأة ليس محصورا داخل المنزل فقط أو كأمهات فقط. النساء الأحمديات عضوات فاعلات في المجتمع، حيث تعمل الكثير منهن طبيبات ومحاميات ومعلمات وفي مجال الصيدلة وعلم النفس ومعماريات ومحاسبات على سبيل المثال لا الحصر. وأولئك اللواتي لا يعملن هن أيضًا عضوات نافعات اندمجن في مجتمعاتهن ويقمن بتقديم المساعدة لمحيطهن المباشر مما يؤدي بدوره لبناء الأمة، حيث يتواصلن مع جيرانهن ومع المسنين والمرضى والضعفاء داخل مجتمعاتهن المحلية ويطهين لهم، أو يأخذنهم بسياراتهن إلى مواعيدهم أو يتسوقن لهم. ولا تقتصر جهودهن في بناء الأمة على دوائرهن المحيطة أو جيرانهن فحسب، بل يساهمن بمنافع بعيدة المدى. أعرف العديد من النساء الأحمديات اللواتي تبرعن بسخاء في صندوق مساعدة الأيتام في إفريقيا على سبيل المثال، أو في صندوق بناء آبار المياه في صحارى باكستان أو صندوق تأمين الطاقة المتجددة في القرى النائية في إفريقيا. وفي إحياء ذكرى مرور 100 عام على تأسيس منظمتنا المساعدة، تعهدت سيدات الجماعة في المملكة المتحدة ببناء مستشفى للولادة في إفريقيا، إدراكًا منهن لفوائد تعزيز صحة الأم في البلاد.
أود إنهاء خطابي بكلمات ثاقبة لإمام الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة ميرزا مسرور أحمد قالها مخاطبًا النساء الأحمديات في اجتماعهن السنوي عام 2017:
" أي رجل يعتقد أن المرأة لا ينبغي لها أن تشارك بنشاط في الشؤون الدينية، أو أن تقدم التضحيات لدينها، وأنها يجب أن تبقى بعيدة عن الدين وتكون مجرد زينة لمتعة زوجها فهو مصاب بالجهل الشديد، وبالمثل، إذا كانت أي امرأة تعتقد أنه بسبب مسؤولياتها المنزلية لا تحتاج إلى المشاركة في الشؤون الدينية، أو لتقديم التضحيات لدينها وأمتها، فهي أيضا مخطئة ومذنبة في تقويض مكانة المرأة".