"وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ"
لم يمر على الإنسان عصر علا فيه صوت المرأة وصوت تحرير المرأة كهذا العصر، من أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بدأت هذه الظاهرة بالنمو شيئا فشيئا حتى بدأت بالظهور العلني من خلال التنظيمات النسائية وغيرها، وبرزت بشكل كبير بعد الحربين العالميتين اللتين نتج عنهما الكثير من الأرامل والأيتام والخراب. ورغم أن المرأة كانت عبر العصور تعمل وتعمل ولم تتوقف عن العمل.. تعمل في البيت والحقل والبادية والقبيلة ولكن ليس لعملها قيمة مادية بسوق العمل، إنها منتجة وهذا إنتاج أساسي، وله وزن مهم جداً في الناتج القومي الإجمالي، على الرغم من أنه لا يحسب، ومن المهم ملاحظة أن النساء لم تنتبه إلى حقيقة أنهن ينتجن، وكن ينتجن، وما برحن ينتجن، وإذا توقفن عن ذلك الإنتاج فإن العالم كله بما فيه من مصانع، وأي شيء يخطر ببالك حتى الدولة ممكن أن تتوقف، فهذه النقطة لابد للنساء من تفهمها من أجل إعادة تعريف مفهوم العمل. لكن أصواتا بدأت تعلو مطالبة بعمل المرأة في كل المجالات ومطالبة بما سموه بالمساواة مع الرجل، هذه المساواة التي لم تعرّف بدقة مما جعلها أرجوحة تتأرجح عليها هذه الصيحات التي علت منادية المرأة بالنهوض والمشاركة والتحرر، ولكن ضمن إطارٍ غير معرف انزلقت فيه المرأة ووقعت بفخه معتقدة أنها فعلا أسيرة وغير منتجة ووظائفها حقيرة لأنها غير مقيمة ماديا بمقياس الرجال.
إنه عصر تحرر المرأة بجدارة، إذ لم تمر البشرية بزمن مشابه ...طبعا لابد من وضع كلمة تحرر مع عدة إشارات استفهام .
لاننكر بأن المرأة قد مرت بعهود اضطهاد سواء من قبل الأسرة أو المجتمع أو العادات والتقاليد تحت بنود دينية، ولكن هذه المرأة المضطهدة لم تتوقف عن الانتاج ولم تتوقف عن العطاء، كان الصمت الناتج عن الضعف الداخلي يغلف سكوتها وإنما حصل الانفجار بعد النقلات النوعية التي طرأت على البشرية منذ الثورة الصناعية وبروز الاستعمار الإمبريالي والحاجة الماسة للأيدي العاملة بشكل ضخم ليلبي حاجة الانتاج الذي كبر كثيرا باختراع الآلات.. فاستُغلت المرأة في المصنع كما كانت تُستغل بالحقل والبيت وزاد العبء عليها ولم تجد مردودا لهذه الزيادة ومن هنا بدأت بعض الأصوات النسائية بالعلو، ومع الثورة الشيوعية وبروز الأحزاب الليبرارية وغيرها بدأت حركات مايسمى بتحرر المرأة ومساواتها مع الرجل وغير ذلك مما صار عنوانا عريضا في القرن الماضي، والمضحك أن الجميع يتغنى بأن المرأة استطاعت أن تقوم بكثير من الأعمال التي كانت في الماضي للرجال، فصارت طبيبة ومهندسة وقاضية وسائقة سيارات أجرة بل سائقة جرارات ودخلت المعترك السياسي وصارت تنتخب ودخلت البرلمانات وكذلك التشكيلات الوزارية بل وصلت لرئاسة البلاد، وماذا بعد؟؟
لسنا هنا بصدد تبيان تاريخ التهميش والعزل والاضطهاد الذي تعرضت له المرأة عبر العصور، أو تبيان الأسباب والعوامل، بل نهدف إلى الوصول إلى نتيجة: هل حققت المرأة في هذا الزمن ماتربو إليه من حرية ومساواة وإنصاف وووووو إلخ؟؟
إذا عاينا الواقع الذي تعيشه المرأة حاليا نجدها تعمل في البيت وخارج البيت وتساهم ماليا ومعنويا بكل مايتعلق بعائلتها، حتى المرأة الفقيرة والأمية فإنها ليست أقل مشاركة فأنا أرى حولي نماذج من النساء يستحققن كل تقدي ، فخلال الأزمة التي عصفت ببلدنا هاجر إلى منطقة سكني بعض القرويين من شمال سوريا بعد أن احتل الداعشيون أراضيهم وأرهقوهم ظلما، وسكنت هذه العائلات في الأبنية غير المنتهية بظروف قاسية بلاجدران أو نوافذ ولا أي مرفق أساسي من مياه وكهرباء وغيرها، ومع ذلك ألاحظ النسوة الأميات يخرجن كل يوم صباحا يحملن على أكتافهن أكياسا كبيرة يجمعن من القمامة ما يجدنه من فوارغ بلاستيكية ومعدنية وغيرها مما يمكن إعادة تدويره ليبعنه لمن يهمه ذلك فيحصلن على بعض النقود يساعدن أزواجهن في حياتهم القاسية، وأحيانا لا يجد الزوج ما يعمله ولكن المرأة لا تبقى دون حيلة بل تفعل كل ما تستطيعه من خدمة الأبنية السكنية وتجميع الأشياء وغير ذلك لتحصل على بعض النقود. واجتمعت ببعضهن ممن يطرقن بابي ووجدت إصرارهن على تعليم أبنائهن والتضحية بكل شيء ليتعلم الأولاد ويكون لهم مستقبل مختلف.. لقد حرمت معظم تلك النسوة من التعليم وهذا هو تأثير الموروث الاجتماعي المتخلف الذي يحرم المرأة من التعليم ولكن رجالهم أيضا بمستوى متدني من التعليم. الكثير يظن أن التعليم مهم فقط لإيجاد عمل وهذا الرأي ليس من عندي فقد حضرت ندوة عن المرأة على إحدى القنوات العربية وأذهلني رأي الدكتور زكي بدوي (عميد الكلية الإسلامية)في قطر، الذي قال: "تتعلم المرأة في كثير من بلادنا ولكنها تحرم من العمل، فما فائدة هذا التعليم؟ ولماذا تنفق الدولة وينفق المجتمع الجهد والمال لتعليم المرأة إذا لم يعطها الحق أو لم يعطها الفرصة لتطبيق أو للانتفاع بمجهودها وبعلمها؟" طبعا إن حرمان المرأة من العمل غير مقبول إنما لايجب ربطه بالعلم، فالعلم يغير شخصية المرأة ويزيد ثقافتها ويفتح لها آفاقا في المعرفة تستفيد منها ليس فقط لإيجاد عمل.
الحقيقة كلنا نعرف بأن هذا الزمن هو زمن سماع صوت المرأة بامتياز وقد أخبرنا الله تعالى بكتابه المجيد عن هذا بقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (9) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (10)} (التكوير 9-10) أي أنه الزمن الذي ستعلو فيه الأصوات لتتساءل لم حصل كل هذا الغبن بحق المرأة ...إنها إحدى علامات الزمن الذي سيرسل الله تعالى فيه من يصحح عقائد المسلمين التي بعدت كثيرا عن أصلها المنير ...إنه الزمن الذي سيعلو فيه صوت المرأة ولكن ليس لتخرج من قبرها الذي دفنت فيه حية إنما ليتم وأدها مرة أخرى في امبراطورية الدجال بشكل يبدو ظاهريا أنه عرس كبير لها، يقول العالم النفسي الفرنسي بيير روسي : " لم يسبق للمرأة أن كانت مسحوقة، ومنهارة، ومستعمرة، وخامدة مثلما هي عليه الآن. ويمثل عصرنا أكثر العمليات دناءة في تاريخ المرأة، فالمظاهر خداعة، ذلك أن الفخ مموه على نحو يثير الإعجاب. والجنسان في العمل يبديان وجها خارجيا باهتا على نحو متماثل، ومع ذلك لم يطرأ أي تغيير على صراعهما بل ربما أصبح أكثر ضراوة، والورود تحف بمعتقل العمل في الخارج، فالنساء، من جهة، ينلن حقوقهن العادلة، الاجتماعية والقانونية. والعمل من جهة أخرى ممنوح لهن في هذا العالم إلى حد الإشباع. ولكن في أي عالم؟ في عالم الرجال بالطبع. والنجاح الكبير في هذا السياق من الخداع أن المرأة تظن غالبا أن هذه الحالة الجديدة حرية حديثة العهد. ويمكن للرجال الذين يرغبون في استعباد المرأة أن يتنفسوا الصعداء. لقد تم الأمر ووقعت في الفخ. إنها على وشك أن تفقد شخصيتها وأصالتها الخاصتين ومفعول روعتها وقدرتها الداخليتين تم إبطاله.
بل يتساءل المرء عما إذا لم تكن "المرأة" في سبيلها الى الزوال، الأمر الذي يلائم كثيرا من الناس. ذلك أن الرجال هم وحدهم الذين حاولوا أن يستعبدوا المرأة مدفوعين بالحصر. والعديدات من النساء هن كذلك ضد النساء. فهن إذ يرفضن أنوثتهن، بل يكرهن الأنوثة أحيانا، يدفعن زميلاتهن إلى النضال ضد الرجال، ولكن في عالم الرجال. أما النساء اللواتي يرغبن في أن يكن حرائر من الناحيتين الداخلية والخارجية، ويرفضن الخضوع إلى الضرورات الجديدة فمدعوات إلى عمل عسير".
إن استغلال المرأة في هذا العصر سواء في الإعلانات أو التسلق للمناصب أو غيرها من المجالات التي يسلكها الرجل، ظواهر لم يسبق لها مثيل من قبل، لقد صارت المرأة تصنع قطعة قطعة (إذا صح التعبير) لتكون أنموذجا مشوها من المرأة الإنسانة، وقدمت المرأة في هذا العصر بشكل مشوه بعيدًا عن المرأة الحقيقية الكائنة داخلها وأصبحت مفاهيم الأنوثة والذكورة بعيدة عن الواقع تماما، فحسب آراء علم النفس فإن الهرمونات الأنثوية تهيء الإنسان سلفا للصفات التالية: الثبات، السلبية، قابلية الاستقبال، الاستقرار، الحمل، والماهية، أما الهرمونات الذكرية فتهيئه للصفات التالية: التقلقل، الفاعلية، المحاكمة والمنطق، الترحال، التعبير الخارجي عن الذات، والمظهر.
وتبين لنا الحياة اليومية أن لكلٍ من الرجال والنساء موقعا ضمن هاتين الزمرتين من الصفات، فالذكر المحض معدوم كالانثى الصرف. فالذكر المحض سيكون ضربا من الغول المتفجر، على نحو مستمر، بضروب العدوانية والنزوات والغضب، وموجود بمنتهى الرعونة لايتصرف الا بالهجوم واللدغ، والأنثى الصرف ستكون برقة هائلة ولا متمايزة والة للتكاثر كملكة نمل فلكي يصبح الذكر رجلا والأنثى امرأة لابد من أن يتصف كل منهما "بشيء من الآخر" ونعلم منذ زمن بعيد أن كلا منهما يحمل في ذاته بعضًا من خصائص (وبعض هرمونات) الجنس الآخر وهنا تبدأ الصعوبة، ذلك أن التحديدات تتبعثر بتخطيطات جاهزة، فعندما يتصرف رجل بلين ويكون فاتن وذو حركات متموجة يقال عنه أنثوي، إنه ليس كذلك على الإطلاق بل هو مجرد رجل لين العريكة وفاتن. والأنوثة شيء مختلف. وإذا اتصفت امرأة بالعدوانية والقدرة على المنافسة يقال إنها تسلك سلوك الذكر، إنها ليست كذلك أبدا بل هي مجرد امرأة عدوانية قادرة على المنافسة والذكورة شيء مختلف.
إنه لموضوع أساسي من موضوعات علم النفس التحليلي: وهو حقيقة لا غنى عنها كالخبز، كل رجل ذكر وأنثى معا، وكل امرأة أنثى ورجل معا .من أجل ذلك فإن الله تعالى لم يفرق بين الجنسين بل كانا سواسية بالحقوق والواجبات ومن حيث الدينونة، ولكنه تعالى شرح وظيفة ومهام كل منهما، ولا تمنح هذه المهمات أي أفضلية لأحدهما على الآخر، إن الاضطهاد الذي تعرضت له المرأة عبر العصور ناتج عن مخلفات اعتقادية قديمة وفهم خاطئ للدين وموروث اجتماعي متخلف.. والأكثر من هذا كله فإن هذا العصر عصر المسيح الدجال، هذه الأمم التي استعمرت العالم هي التي بثت في العقد كما وضح القرآن المجيد .. بثت سمومها تلك التي عززت الدونية عند النساء بأنهن لم يخلقن للإنجاب وخدمة الزوج والمكوث في البيت، وغير ذلك مما أصبحت المرأة تتبرأ منه وتظن أنها تتحرر من هذا العار وتخرج للعمل والنضال والحرية وبذلك فقدت استطاعتها الداخلية الخلاقة كامرأة تخلق الحياة وتكون الجنان تحت أقدامها.
إن هذا الموضوع ليس دعوة للمرأة لتترك عملها وتعود إلى بيتها وتكتفي، بل هو تحفيز لتدرك أنها المخلوق الذي اختاره الله الخلاق ليكون منجبا للخلق ومربيا، لتدرك كمونها الداخلي وقدرتها العظيمة على أن تجعل من هذا العالم عالما مستقرا يعم فيه السلام وتتحقق فيه العدالة وليس معنى هذا أنها إذا لم تنجب فقد خسرت امتيازها لا فإن صفاتها الداخلية نفسها سواء أنجبت أم لم تنجب.. إن صفاتها (حسب آخر علوم النفس والاجتماع ) تجعل منها ميزان لتوازن العالم ولكن يجب أن تؤمن بنفسها وأن لاتفكر بالدونية أو التفوق بل تنتبه للعوائق والمزايا وبذلك تزيل معوقاتها وتتمتع بمزاياها لتظل محور الجماعة الإنسانية. وأن تعلم إلى أي حد يتصف الرجل بأنه ثلوم بدونها وأعزل وكم يكابد الحاجة إلى محطة داخلية قرب امرأته وفي منزله. أن تفهم أن اختفاء المرأة يعني زوال العالم، أن تفعل كل شيء لتحتفظ بصحوة الشاهد فالمرء لايرى وكر النمل إذا أصبح نملة، وكيف يمكن للمرأة أن تحتفظ بذبذبتها الخاصة وهي سجينة تشارك في صنع الاسمنت الحديث؟ أن تعلم أن الأبطال الحقيقيين رجال ونساء في الوقت نفسه: عطف ومعركة معا. ولكن العطف لدى المراة يتقدم على المعركة في الظهور فتتوقف المعركة . أن ترفض أخيرا أن تستمع إلى اولئك الذين ينادون بإلغاء ما تختلف به عن الرجل، فمثل هذا الالغاء متعذر من جهة، وهذه الفروق من جهة أخرى، مزية بالنسبة إليها وثروة بالنسبة إلى العالم في الوقت نفسه. أن عليها، على العكس، أن تجعل هذه الفروق الأساسية أصيلة وتعمقها وأن ترجع إلى أصل انوثتها التي تتصف بأنها قوة وذكاء عميق وحكمة ورحمة.
وأجمل ما أنهي به مقالتي ماقاله أمير الشعراء عن انحيازه لتاء التأنيث:
الحرف بمحدوديته ذكر، واللغة بشمولها أنثى
والحب بضيق مساحته ذكر، والمحبة بسموها أنثى
والسجن بضيق مساحته ذكر، والحرية بفضائها أنثى
والبرد بلسعته ذكر، والحرارة بدفئها أنثى
والجهل بكل خيباته ذكر، والمعرفة بعمقها أنثى
والفقر بكل معاناته ذكر، والرفاهية بدلالها أنثى
والجحيم بناره ذكر، والجنة بنعيمها أنثى
والظلم بوحشيته ذكر، والعدالة بميزاتها أنثى
والتخلف برجعيته ذكر، والحضارة برقيها أنثى
والمرض بذله ذكر، والصحة بعافيتها أنثى
والموت بحقيقته ذكر، والحياة بألوأنها أنثى.
[1] المرأة بحث في سيكولوجية الاعماق
[2] المرجع نفسه
[3] فرويد وكارل يونغ
[4] بيير روسي