الإنفاق في سبيل الله سرًا وعلانية



 لقد وضع الإسلام، ضمن تعاليمه الشاملة، أحكامًا تهدف إلى رفاهية الفرد والمجتمع والعالم ككل. ومن هذه التعاليم، أنه أمرنا بالإنفاق في سبيل الله من أجل نشر الدين أو لمساعدة الفقراء والمحتاجين وهو ما سأركز عليه في مقالي هذا.
إن الإنفاق في سبيل الله لا يفيد المتلقي فحسب، بل ينفع المنفقين أيضًا، حيث يكفّر الله من سيئاتهم وخطاياهم بفضل إنفاقهم:
"إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (البقرة: 272)
تؤدي الرفاهية الاجتماعية المرجوة من مساعدة المحتاجين إلى ازدهار الأمة، الأمر الذي يقود بدوره إلى رخاء الفرد. لكن هذا ليس الهدف الأول من الإنفاق، بل الهدف هو نيل رضا الله تعالى.
والإنفاق بحسب القرآن الكريم مشروعٌ في السر والعلن، فلكليهما مزاياه الخاصة وفي كلا الحالتين سينال المنفق الأجر والثواب من الله تعالى:
"الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة: 275)
وبالتالي، يتوجب على المسلم تقييم الوضع والظرف ليقدّر أيّ طريقي الإنفاق عليه اتخاذه لينال رضا الله تعالى ويحقق أقصى حدٍ من الفائدة.
ومن ناحية أخرى، فإن التباهي بالإنقاق والمراءاة والمنّ على المنفَق عليهم أمرٌ ممنوعٌ تمامًا في الإسلام، وقد حذّر القرآن الكريم من يقوم بذلك وبيّن له أن صدقاته لن تنفعه شيئًا بل وكأنها لم تكن أبدًا، ومثَله كمثل صخرةٍ كانت مغطاة بالأتربة، فتساقط عليها المطر الغزير تاركًا إياها ملساء وجرداء لا يمكن أن ينبت فيها شيء:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (البقرة:265)
وبالتالي، عندما ينفق المسلم علانيةً أمام الآخرين، فيجب أن يكون ذلك لهدفٍ وحيد ألا وهو تشجيعهم على الإنفاق في سبيل الله وفعل الخيرات، ولكن إذا كانت نيته التباهي بثروته أمام الآخرين فسيكون إنفاقه هذا –كما أسلفت- كأنه لم يكن أبدا.
كما تجدر الإشارة إلى أن التحدث عن نعم الله، سواء المادية أو غيرها، أمرٌ جائز في الإسلام إذا كان الهدف من ذلك تشجيع الآخرين على السعي لنيل مثل هذه النعم "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" (الضحى: 12).

 

إن الصدقة فعلٌ نبيلٌ جدًا طالما أن المتصدق لا يحمل في قلبه ذرة من النفاق، ولم تدفعه لهذا العمل الرغبة في التباهي أو إهانة الآخرين.
ويُفضل إخفاء الصدقة خصوصًا عندما تُعطى للفقراء والمحتاجين احترامًا لمشاعرهم وكرامتهم، ولكن من الأفضل الإنفاق علنًا في الأمور الأخرى من أجل إلهام الآخرين ليحذوا حذوك:
"قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ" (إبراهيم:32)
ففي حين أن جميع الأديان السماوية تدعو إلى فعل الخير، فإن الإسلام يتفرد في الدعوة إلى التنافس في فعل الخيرات "فَاسۡتَبِقُوا الۡخَیۡرٰتِ" (البقرة:149) فكلمة "تسابُق" تعني أن تسرع بأقصى درجة، وهي التباري مع الآخرين بحيث يتقدم بعضهم بعضًا، وسيحقق الشخص الأفضل المزيد من الخير حيث سيحاول الآخرون اللحاق به، لذلك فإن سباق الملايين مع الملايين في التنافس في عمل الخير سيستمر بكل سرعة وقوة وبكامل الطاقة.
يجب ألا يفهم المرء أن الإسلام يخلق الحسد والجشع في قلوب أتباعه، بل هو يظهر فقط أن واجب المؤمن هو مساعدة إخوانه وأخواته في التقدم لأن الغاية النهائية هي صالح الآخرين.
"وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران: 105)
وهكذا، عندما يقوم المؤمن بأعمال الخير، فإنه يدعو الآخرين للإسراع للقيام بالخير ونيل نفس البركات والنعم التي نالها، وبالتالي عندما يتنافس المؤمنون في فعل الخيرات، فإنهم يأخذون معهم المتخلفين وراءهم ويساعدون الآخرين على اللحاق بهم، وهذا هو في الواقع أعظم سباق للخير وهو يجسد الروح الحقيقية للإنسانية.
أخيرًا، علينا أن نتذكر المبدأ التوجيهي الذي علّمنا إياه القرآن الكريم بشأن الاستفادة القصوى من التصدق والإنفاق وهو: "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ" (آل عمران: 93) لذلك، إذا كنت مستعدًا بالتضحية في سبيل الله بأكثر شيء تحبه، سواء كان ذلك المال، أو النوم، أو الأولاد، أو الوقت أو غير ذلك، فإن هذا الفعل سيكون برًا. أدعو الله تعالى أن يمكّننا من العمل بموجب هذه التعاليم العظيمة، آمين.