أم المؤمنين أم حبيبة (رضي الله عنها)
هي السيدة رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ولدت قبل خمس عشرة سنة من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها صلى الله عليه وسلم في العام السادس الهجري وكان عمرها آنذاك 36 عاما، بينما كان عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 58 عاما. تزوجت قبل النبي من عبيد الله بن جحش وأنجبت منه ابنتهما حبيبة وبها كانت تكنى.
أسلمت السيدة أم حبيبة وزوجها عبيد الله بن جحش الأسدي في مكة في بداية الدعوة، وعاشت معه فترة الاضطهاد الوحشي التي لاقاها المسلمون هناك، ولما طلب رسول اللهصلى الله عليه وسلم ممن يستطيع الهجرة من المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة وقال إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد، كانت أم حبيبة وزوجها من بين المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة ليتمتعوا بالأمن والأمان وليعبدوا الله بحريّة، وقيل في روايات أنها كانت حاملا بحبيبة عند الهجرة وفي روايات أخرى أنها حملت وولدت بالحبشة.. وهكذا كان كل شيء على أفضل ما يرام في الحبشة لكن للأسف لم تدم سعادتها طويلاً وحدث ما لم يكن في الحسبان، وهذا الأمر ترويه السيدة أم حبيبة بنفسها فتقول: "رأيت في المنام كأن زوجي عبيد الله بن جحش بأسوأ صورة وأشوهها، ففزعت، فقلت في نفسي: تغيّرتْ والله حاله، فلما أصبح الصباح دعاني وقال لي: يا أم حبيبة، إني نظرت في الدين قبل إسلامي، فلم أرَ دينًا خيرًا من النصرانية، وكنت قد دِنتُ بها، ثم أسلمتُ ودخلتُ في دين محمد، ولكني الآن أرجع إلى النصرانية، ففزعتُ من قوله وقلت: والله ما هو خيرٌ لك. وأخبرتُه بالرؤيا التي رأيته فيها، فلم يحفل بها"
وقد عرض عليها ترك الإسلام والدخول في النصرانية، فأبت، وبقيت متمسكة بدينها أما هو فأكبّ على الخمر يعاقرها حتى مات.
ومع موت زوجها ازداد همّ وغمّ أم حبيبة فقد أصبحت أرملة في بلاد الغربة من جهة، ومن جهة فإن والدها أبا سفيان زعيم مكة من أشد أعداء الإسلام يعني حتى لو فكرت بالعودة لمكة سيكون مصيرها وابنتها مجهولًا هناك، فواساها الله بطريقة رائعة جدًا فقد رأت في الرؤيا أحدًا يناديها: "يا أم المؤمنين" فاستيقظتْ مذعورة وأوّلتْ الرؤيا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلمسيتزوج بها.
وبالفعل هذا ماحدث فبعد أن انقضت عدتها، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّجَاشِيِّ ملك الحبشة – وكان مسلمًا آنذاك- يطلب منه أن يُزَوِّجَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَيَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ مَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى أُمِّ حَبِيبَةَ يخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا عن طريق جَارِيَةً اسمها أَبْرَهَةُ، فَأَعْطَتْهَا أم حبيبة بعض الحلي لزفها لها هذا الخبر، فقالت لها أبرهة إن الملك يقول لك أن تُوَكِّلَي مَنْ يُزَوِّجك، فَوَكَّلَتْ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وعُقد النكاح فكان النَّجَاشِيُّ وكيل رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وسيدنا خَالِد وكيل السيدة أُمَّ حَبِيبَةَ، ثُمَّ أعطاها النجاشي أربعمائة دِينَار مهرًا لها ولما وصلتها هذه الدنانير قدمت منها للجارية أَبْرَهَةُ خَمْسِينَ دينار، وَقَالَتْ لها سابقًا أَعْطَيْتُكِ شيئا بسيطا لأنه لم يكن عندي شَيْءٌ، وَالآن قَدْ جَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا فخذيها واستغني بها فقالت أبرهة: قد أمرني الملك ألا آخُذَ مِنْكِ شَيْئًا، وَأَنْ أَرُدَّ إِلَيْكِ ما أخذته منك، وأنا قد صَدَّقْتُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ وَآمَنْتُ بِهِ، وَحَاجَتِي إِلَيْكِ أَنْ تُقْرِئِيهِ مِنِّي السَّلامَ وتعلميه أني قد اتبعت دينه، فوعدتها بذلك وكانت كلما دخلت عليها تقول لها: "لا تنسى حاجتي إليك".
جهزها النجاشي أم حبيبة بالكامل وأرسل لها مع أبرهة كل شيء وحتى العطور من العود والعنبر..
ولما ذهبت السيدة أم حبيبة إِلَى المدينة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ِخَيْبَرَ، فأقامت بِالْمَدِينَةِ حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولما التقيا كَانَ يسألها عن النَّجَاشِيِّ، ثم أخبرته كيف كانت الخطبة، وما فعلت معها أبرهة وأوصلت له سلامها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "وعليها السلام ورحمة الله".
الواضح أن رسول الله أراد من هذا الزواج مواساتها.. يعني من جهة تنصّر زوجها فثبتت على إيمانها، ثم مات وترملت في بلاد الغربة.. فكان هذا الزواج المبارك عملا إنسانيا ومكافأة عظيمة لكل ما قدمته أم حبيبة من تضحيات.
روت أم حبيبة 65 حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك موقف شهير لها يبين كيف كانت تعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في أبسط الأمور حيث زارها والدها أبو سفيان ذات مرة في المدينة وكان لا يزال مشركا آنذاك وجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فسحبته من تحته فقال لها "يا بنيّة، أرغبتِ بهذا الفراش عنّي؟ فأجابته: "بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت امرؤٌ مشرك".
ومن مواقفها أيضا أنها كانت أول من جاء من أمهات المؤمنين لنجدة سيدنا عثمان - رضي الله عنه – لما حاصره المتمردون حيث جاءت على بغلة لها فقيل للمتمردين: أم المؤمنين أم حبيبة. فضربوا وجه بغلتها. فقالت: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل فأحببتُ أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال الأيتام والأرامل. ولكن هؤلاء الأشقياء قالوا لها: إنك كاذبة، وقطعوا حبل البغلة بالسيف فوقعت أم حبيبة وكادت تُداس تحت الأقدام وتُقتَل لولا أن أسرع إليها بعض أهل المدينة وأنقذوها وأوصلوها إلى بيتها.
والواقع أن موقفها من الفتنة زمن سيدنا عثمان لم ينته هنا فلما قتل رضي الله عنه أرسلت أم حبيبة إلى أهل عثمان وطلبت منهم أن يرسلوا ثيابه التي قتل فيها فبعثوا إليها بقميصه مضرج بالدماء وبخصلة الشعر التي نُتفت من لحيته الشريفة فعقدت الشعر في زر القميص ثم دعت النعمان ابن بشير فبعثت به إلى أخيها معاوية أمير الشام فمضى بالقميص وبكتابها إلى معاوية فصعد معاوية المنبر وجمع الناس ونشر القميص وذكر ما صُنع بعثمان ودعا إلى الطلب بدمه – طبعا هذا كان قبل انتخاب سيدنا علي خليفة فرأت أم حبيبة أنه يمكن لأخيها الانتقام لمقتل سيدنا عثمان ووقف تمرد المتمردين.
وهناك أيضا موقف رائع لها روته لنا السيدة عائشة وقالت: دعتني أم حبيبة عند موتها فقالت قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت سررتني سرّك الله، وأرسلتْ إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك.
توفيت أم حبيبة سنة 44 هجرية ودفنت في البقيع مع بقية أمهات المؤمنين.