الهدف من بعثة المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام)
إن أعظم غرض لمجيء الأنبياء في العالم، وأسمى هدف لتعليمهم وتبليغهم أن يعرف الناس ربهم، وأن ينجوا من الحياة التي تقودهم إلى الجحيم والهلاك والتي تُسمى الحياة المتلطخة بالآثام. الحق أن هذه هي المهمة العظمى التي تواجههم. فهذه الجماعة التي أقامها الله الآن، وبعثني فإن الهدف من بعثتي أيضا هو الهدف المشترك نفسه الذي كان هدف الأنبياء جميعا. حيث أنني أريد أن أخبر ما هو الله، بل أريد أن أُريه عيانا، وأرشد إلى سبيل الخلاص من الذنوب.
الطرق والوسائل التي أوجدها الناس في العالم لاجتناب الذنوب، والمبادئ التي اكتشفوها لمعرفة الله خاطئة تماما لكونها أفكار الناس، كما أنها خيالٌ محضٌ لا روح صدقٍ فيها. سأقول الآن وسأوضح بالأدلة أن هناك سبيلا وحيدا للخلاص من الذنب وهو أن ينال الإنسان يقينا كاملا بأن الله موجود وأنّه يجزي ويعاقب. فما لم يوقن المرء بهذا الأصل يقينا كاملا لن يطرأ الموت على حياة الذنب. الحق أن هناك حاجة ماسة للتأمل والتدبر في تعبيرينِ: "الله موجود"، و"يجب أن يكون موجودا".
القول الأول -أي "الله موجود"-: هو يخرج من أصل علم اليقين بل من أصل حق اليقين. أما القول الثاني فهو مبني على القياس والظن فحسب. فمثلا يمكن لفيلسوف أو حكيم -بالنظر إلى النظام الشمسي والأجرام والمخلوقات الأخرى- أن يقول: "أقول نظرا إلى هذا الترتيب المحكم والنظام الأبلغ بأن هناك حاجة لمدبر وخالق حكيم وعليم." ولكن لا يمكنه الوصول قط بقوله هذا إلى درجة اليقين التي يصلها من يقول -نتيجة الكلام مع الله مباشرة وبالنظر إلى آيات الله الساطعة التي تؤيده وتحالفه- بأن قادرا على كل شيء موجود فعلا. فالأخير يرى الله تعالى بعين المعرفة والبصيرة، فهناك بُعد المشرقين بينهما. لذا فإن الحكيم أو الفيلسوف الذي يعتقد بوجود الله على سبيل القياس والتخمين فقط لا يمكن أن يبلغ كمال الطهارة الصادقة والخشية الإلهية، لأنه من الواضح أن العلم بالضرورة فقط لا يملك قوة وقدرة تخلق فيه رهبة الله وتنقذه من الفرار إلى الذنب وتنجيه من الظلمة التي تنشأ نتيجة الذنب. أما الذي يشاهد جلال الله من السماء مباشرة فينال مع هذا الجلال قوة ونورا على الأعمال الصالحة، ووفاؤه وإخلاصه ينقذانه من السيئات وينجّيانه من الظلمة. إن مكالمات الله ومكاشفاته الجليلة تقضي على قوى السيئة، والأهواء النفسانية فيتخلص من الحياة الشيطانية ويعيش حياة الملائكة، ويمشي بحسب مشيئة الله وإشاراته. كما لا يسع أحدا أن يكتسب سيئة تحت نار محرقة كذلك الذي يأتي تحت تجليات الله الجلالية تموت فيه النزعات الشيطانية ويُسحَق رأس حيّته. فهذا هو اليقين وهذه هي المعرفة التي يقدمها الأنبياء للعالم بمجيئهم، وبها يستطيع الناس أن ينالوا حياة طيبة بعد النجاة من الذنوب.
وقد بعثني الله على هذه السنة، والهدف من مجيئي هذا هو أن أُري العالم أن الله موجود وهو يجزي ويعاقب. وإنّ القول بأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش عيشا طاهرا إلا بهذا اليقين والذي يتخلص به من الموت بالذنوب واضح لدرجة لسنا بحاجة إلى أدلة منطقية لإثباته، لأن فطرة الإنسان وتجاربه ومشاهداته اليومية لهي شواهد قوية على أنه ما لم يكن اليقين كاملا بأن الله موجود وأنّه تعالى يكره الذنب ويعاقب عليه فبدون ذلك لن تفيد حيلة قط، لأننا نرى كيف أننا نفر إلى أشياء نعلم تأثيراتها الحسنة، أما الأشياء التي نحسبها سموما خطيرة لأنفسنا فنرى كيف نفر منها فرارا. فمثلا إذا كنا موقنين أن هناك حية تحت هذا العشب فهل يتشجع أحد منا على وضع يده أو قدمه فيها؟ كلا، بل إذا كانت هناك أدنى إمكانية بوجود الحية في جحر فإننا نتحاشى المرور من هناك، وتتردد الطبعية دائما من المرور بذلك الجانب. هذه هي حالنا عندما نعلم عن السموم، فمثلا هناك سم اسمه "استركنيا" يموت الإنسان بتناوله، إنك لترى كيف يتحاشاه الناس ويفرون منه فرارا. وإذا تفشى الطاعون في حارة فَرّوا منها وحسبوا وضع القدم فيها بمنـزلة الوقوع في تنور مضطرم. فما الذي خلق الرعب والذعر في قلب المرء لدرجة لا يتوجه عندها إلى ذلك الجانب بأي حال؟ إنما هو اليقين بتأثيراته الضارة والفتاكة. يمكننا أن نقدم على ذلك أمثلة لا تُعدّ ولا تحصى، ونواجهها كل يوم في حياتنا اليومية.
فهل البحوث هي الطريق لاجتناب الذنب؟ أو هل هي الوسيلة المثلى لذلك؟ بل هي غير مجدية وبلا فائدة تماما! لأنه ما لم يكن المرء مطّلعا على هيبة تجليات الله وعلى سم الذنب ونتائجه الخطيرة إلى درجة اليقين الكامل لا يمكنه الخلاص من الذنب.
ومن الخيال والمحال تماما اعتبار أن كفارة أحد تستطيع أن تطهر الإنسان من الذنوب. ما علاقة الكفارة أو الانتحار بالذنب؟ هذا الطريق لا يؤدي إلى إزالة الذنوب إذ أنه سبيل إلى خلق الذنوب. وقد شهدت التجربة على ما آلت إليه الحالة نتيجة اعتناق هذه الفكرة.
(الملفوظات).