أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب (رضي الله عنها)



 هي من يهود بني النضير، سبط لاوي ابن نبي الله يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام ومن ذرية نبي الله هارون أخي موسى عليهما السلام
وأمها برة بنت سموأل أخت رفاعة بن سموأل من بني قريظة إخوة بني النضير. وكان يهود بني قريظة وبني النضير يسكنون ضواحي المدينة ويعيشون في حصونهم على الزراعة، وقد ولدت صفية ونشأت وتربت تحت كنف أبيها، سيد بني النضير وزعيمهم حيي بن أخطب.
ولدت أم المؤمنين صفية بعد أربع سنوات من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجها في العام السابع الهجري وقد روت عن رسول الله ﷺ عشرة أحاديث.
تزوجت السيدة صفية قبل إسلامها سلامة بن مكشوح القرظي، وقيل سلام بن مشكم، فارس قومها ومن كبار شعرائهم، ثم تزوّجها كنانة بن أبي الحقيق، الذي قُتل يوم خيبر، وأُخذت هي مع الأسرى.
بعد هجرة الرسول ﷺ وأصحابة إلى المدينة، انتُخب رسول الله ﷺ قائدا لها بالإجماع من قبل المسلمين واليهود والقبائل الوثنية، فأبرم معاهدة سلام بين المسلمين المهاجرين، واليهود وبقية أفراد المجتمع عرفت "بميثاق المدينة" وبحسب شروط هذا الميثاق، تعاهدت الجماعات المختلفة على العيش معًا بسلام وأداء حقوق بعضهم بعضًا وتعزيز روح المواساة والتسامح والتعاون المتبادل. وتحت قيادته، أثبتت هذه المعاهدة أنها ميثاقٌ رائع لحقوق الإنسان والحُكْم، كما كفلت السلام بين الجماعات المختلفة، وكان الجميع بموجب هذا الميثاق أو المعاهدة أحرار باتباع دينهم ومعتقداتهم ومما ورد في ميثاق المدينة: "لليهود ما لنا ولهم ما علينا وهم أمة مع المؤمنين ولليهود دينهم ولنا ديننا" لكن للأسف خرق اليهود هذه المعاهدة عدة مرات، وكان يهود خيبر، المحرّض الأساسي على معركة الخندق، ثم عقدوا العزم على الانتقام للهزيمة الساحقة التي لحقت بهم في هذه الموقعة، فجالوا في القبائل العربية يثيرونهم على الإسلام، وراحوا إلى قواد الجيوش الرومانية يحرّضونهم على محاربة المسلمين. وبعد أن فشل المشركون العرب وقادتهم في إحراز نجاح حاسم بالهجوم المباشر على المسلمين، راحوا يتآمرون مع اليهود ليجعلوا حياة المسلمين جحيمًا لا يطاق.
إذن اليهود وخصوم الإسلام الآخرين كانوا مشغولين جدًّا في استثارة القبائل ضد المسلمين، وقد تكوّنت لديهم دلائل مقنعة أن الجزيرة العربية لن تصمد طويلاً أمام تنامي قوة الإسلام، وأن قبائل العرب لم تعد قادرة على مهاجمة المدينة متحدة وفي وقت واحد. لذا لجأ اليهود إلى الكيْد مع القبائل المسيحية على جنوب جبهة إمبراطورية الروم، وفي نفس الوقت بدأوا يكتبون إلى إخوانهم في الدين في العراق ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. لقد التمسوا بالدأب على المراسلة الحاقدة أن يثيروا كسرى الفُرس ضد الإسلام، ولقد ثار كسرى فعلاً ضده نتيجة لمؤامراتهم وحيَلهم، حتى إنه أرسل إلى عامله على اليمن أن يلقي القبض على الرسول - صلى الله عليه وسلم. إذن لقد قاموا بكسر الاتفاقيات والمواثيق بكل الطرق والوسائل..
انتظر رسول الله ﷺ خمسة أشهر ثم قرر إقصاءهم من خيبر، فقد كانت خيبر على مسافة قليلة من المدينة ومن هنا وجد اليهود أنه من السهل اليسير عليهم الاستمرار في الكيد والتآمر ضد المسلمين. ولهذا سار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم في آب/أغسطس (628 بعد الميلاد) ومعه 1600 رجل، وكانت خيبر جيّدة التحصين حيث كانت تحيطها عدة أراض صخرية، على كل منها أقيم حصن صغير، ولم يكن من السهل على قوة صغيرة كتلك التي صاحبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تفتح مكانًا كهذا. وبعد قتال محدود سقطت القوات الصغيرة المرصودة في ضواحي خيبر، ولكن اليهود قاموا بتجميع قواتهم في المدينة الحصينة، وفشلت محاولات الهجوم عليهم. وتلقى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحيًا في يوم من الأيام أنه تعالى سيفتح على عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وفي الصباح التالي أعلن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك على المسلمين، ودعا بالراية السوداء وقال: "اليوم أعطي الراية لرجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله والمؤمنون، يفتح الله خيبر على يديه". وهكذا دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليًّا ودفع إليه الراية. ولم ينتظر عليّ، بل قاد رجاله وهاجم قوات الحصن لفوره.
وبالرغم من أن اليهود قد جمعوا حشود قواتهم داخل هذا الحصن، فإن عليًّا وصحبه قاموا بفتح الحصن قبل حلول الظلام، وتم توقيع اتفاق السلام، وكانت الشروط هي أن يغادر خيبر كل اليهود وأزواجهم وأطفالهم، إلى مكان آخر بعيد عن المدينة.
وخلال حصار خيبر، تزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حُيي بن أخطب، أرملة كنانة، وابنة أحد زعماء خيبر. وذلك بعد أن قُتل زوجها في معارك خيبر وبعد انتهاء عدتها.
من المهم أن نذكر شهادة السيدة صفية نفسها عن عداوة والدها بالذات لرسول الله ﷺ حيث قالت: كُنْتُ أحَبَّ وَلَدِ أَبِي إلَيْهِ، وَإِلَى عَمِّي- أَبِي يَاسِرٍ- لَمْ ألْقَهما قَطُّ مَعَ وَلَدٍ لَهُمَا إلَّا أَخَذَانِي دُونَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ قُبَاء فِي بَنِي عَمرو بْنِ عَوْفٍ غَدَا عَلَيْهِ أَبِي، حُيي بْنُ أَخْطَبَ، وَعَمِّي أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، مُغَلَّسَيْن. فَلَمْ يَرْجِعَا حَتَّى كَانَا مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. فأتَيا كَالَّيْن كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الهوينَى. فهشِشْتُ إلَيْهِمَا كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَوَاَللَّهِ مَا التفتَ إليَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، مَعَ مَا بِهِمَا مِنْ الغَمِّ. وَسَمِعْتُ عَمِّي أَبَا يَاسِرٍ، وَهُوَ يَقُولُ لِأَبِي، حُييّ بْنِ أخْطَب: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاَللَّهِ: قَالَ: أَتَعْرِفُهُ وتُثْبته؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا فِي نفسِك مِنْهُ؟ قَالَ: عداوتُهُ والله ما بَقِيتُ..
وهكذا ومع إبرام عهود السلام إلا أن يهود المدينة استمروا بعداء رسول الله وحاولوا قتله عدة مرات وحرضوا عليه القبائل واستعانوا بالروم والفرس ولكن الله حماه. والحمد لله.
قد وقعت السيدة صفية في معارك خيبر أسيرة وكانت في سهم الصحابي دحية الكلبي، ولما عرف أنها أرملة أحد الزعماء وابنة زعيم خيبر، وجد أن من التكريم لها أن تعيش في بيت الرسول ﷺ فَجَعَلَهَا رسول الله عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ لتمكث عندها إلى أن زُفت إليه.

وروي أن النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال للسيدة صفية ذات يوم وهي بالأسر "ما زال والدك يعاديني ويريد قتلي حتى قتله الله" فقالت له: يا رسول الله أليس دينكم يقول لا تزر وازرة وزر أخرى"؟ فقال لها: "اختاري؛ فإن اخترت الإسلام تزوجتك وإن اخترت اليهودية، أعتقتك فتلحقي بقومك". فقالت: يا رسول الله لقد هويتُ الإسلام وصدّقتُ بك قبل أن تدعوني حيث صرتُ إلى رَحلك وما لي في اليهوديّة أَرب وما لي فيها والد ولا أخ، وخيّرتَني الكفر والإسلام فاللهُ ورسولُه أحبّ إليّ من العَتق وأن أرجعَ إلى قومي" وبهذا وافقت على الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها وكان مهرُها عتقَها وأولمَ لها وَلِيمَةً بسيطة مَا فِيهَا شَحْمٌ وَلَا لَحْمٌ، بل سَوِيقًا وَتَمْرًا..
لقد قصدَ رسول الله صلى الله عليه وسلمَ من هذا الزواج إعزازها وإكرامها وتعويضها على من فقدت من أهلها وقومها.. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى عسى رابطة المصاهرة بينه وبين اليهود أن تخفف من عدائهم وتمهد لقبولهم الإسلام كما حصل مع بني المصطلق حين تزوج أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها..
إذن لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قضت عدتها أولا .. وأيضا هي لم تُسلِم حتى ذهب كل ما في قلبها ضد الرسول ﷺ فقد ظل يعتذر لها حتى ذهب ما في نفسها عليه وهذا ما روته هي بنفسها حيث قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبغض الناس إليَّ قَتلَ زوجي وأبي وأخي فما زال يعتذر إليَّ ويقول: (إن أباك ألَّب علي العرب وفعل كذا وفعل كذا) حتى ذهب ذلك من نفسي"
ومواساته لها كانت منذ اللحظة الأولى لأسرها فقد جاء في السيرة أنه لما أسرت السيدة صفية كان هناك أسيرة أخرى معها وكان سيدنا بلال معهما وقد مر بهما بين القتلى فرأت تلك السيدة زوجها بين القتلى فصاحت وبكت، فقال رسول الله لبلال "أَنُزِعَتْ مِنْكَ الرَّحْمَةُ يَا بِلَالُ، حِينَ تَمُرُّ بِامْرَأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَى رِجَالِهِمَا؟" ثم أبعدهما فورا عن هذا المشهد.
وفي زواج السيدة صفية من رسول الله ﷺ لا بد أن نذكر أن الله قد أراها ذلك في الرؤيا.. فقد روي أن رسول الله رأى على وجهها أثر صفعة، فسألها عنها، فأجابت قائلة: إنها رأت قبل ذلك في الرؤيا أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لزوجها، فلطم وجهها وقال: إنك لتريدين أن تكوني زوجة لملك العرب. فلم يزل الأثر في وجهها إلى أن تزوّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم. والقمر هو الشعار القومي للعرب، وسقوط القمر في الحضن يعني اتصالاً حميمًا مع ملك العرب، وانشقاق القمر وسقوطه إلى الأرض يعني انشقاق الدولة أو سقوطها. إن رؤيا السيدة صفية تدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتدل على تفاعلات خاصة بهذه السيدة بشأن الإسلام في نفسها، وضد الاتجاه العام المتحامل لقومها والمتحيّز ضد النبي، وتدل على أن الله تعالى يوحي بأمور من المستقبل لعبده في المنام، وينال المؤمنون من هذه النعمة نصيبًا يفوق نصيب الكافرين.
صارت السيدة صفية تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا جما وتفضله على أهلها وعشيرتها، وطبعا هذا من حسن معاملته لها وإكرامه لها مع أنها ابنة من تآمر على قتله عدة مرات، ومن شدة حبها لرسول الله أهدت ابنته فاطمة رضي الله عنها حلقًا من ذهب كان في أذنيها، ومن شدة حبها له أيضا حين اجتمعت نساء النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، قالت له: "إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي". وهنا طبعا زوجاته الأخريات نظرن لبعضهن كردة فعل أي ضرائر، فقال لهن رسول الله ﷺ " مَضْمِضْنَ "، فقلن: " من أي شيء؟ " فقال: "من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة"
ومن قصص مواساته لها أيضا يروى أنّ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم دخل على صَفِيّة ذات مرة وإذ بها تبكي، فقال لها: مَا يُبْكِيكِ فَقَالَتْ : قَالَتْ لِي حَفْصَةُ: إِنِّي بِنْتُ يَهُودِيٍّ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ؛ فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ ) ثُمَّ قَالَ ( اتَّقِي اللَّهَ يَا حَفْصَةُ). وفي رواية قالت له: زوجتين من نسائك تعيّراني، وتفضلان نفسهما عليّ؛ لأنهما من بنات عمك، وهن زوجاتك، فأجابها النبي بأن تقول لهما: كيف تكونان خيرا مني وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد.
لا بد أن نذكر موقف رائع من مواقف السيدة صفية وهو ما قامت به وقت حصار سيدنا عثمان رضي الله عنه حيث منع المتمردون عنه الماء والطعام.. روى كنانة وقال: كنتُ أقود بصفية لترُدَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر - كان على رأس أهل الكوفة الذين تولوا الفتنة أيام سيدنا عثمان- فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: "ردُّوني لا يفضحني هذا". ثم وضعتْ خشبًا من منزلها ومنزل عثمان تنقل عليه الماء والطعام، وهكذا وقفت معه في محنته وكانت عونا له.
توفيت السيدة صفية بنت حيي رضي الله عنها فى السنة الخمسين من الهجرة زمن معاوية ويروى أنها أوصت بألف دينار للسيدة عائشة، ودفنت في البقيع مع أمهات المؤمنين رضي الله عنهم.