أم المؤمنين السيدة مارية القبطية (رضي الله عنها)
ولدت بعد ثلاث سنوات من بعثة رسول الله ﷺ بقرية حفن الواقعة على الضفة الشرقية لنهر النيل. وهي الآن في محافظة المنيا على بُعد حوالي 400 كيلومتر جنوب العاصمة المصرية القاهرة.
تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم – من أم المؤمنين مارية القبطية في العام السابع الهجري.
بعد صلح الحديبية أرسل رسول اللهﷺ الرسائل لزعماء وملوك البلدان المختلفة داعيًا إياهم إلى الله تعالى، وكان من بين هؤلاء الملوك المقوقس؛ ملك الأقباط بمصر، فقد كتب له ﷺ الكتاب التالي:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلامٌ على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليتَ فإنما عليك إثم القبط. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ".
وأرسل رسول اللهﷺ هذا الكتاب مع الصحابي حاطب بن أبي بلتعة. وعندما وصل حاطب رضي الله عنه إلى مصر، لم يجد المقوقس في العاصمة، فتبعه إلى الإسكندرية حيث كان له بلاط قريب من البحر. وذهب حاطب على قارب، وكان القصر مدجّجًا بالحرس، عند ذلك رفع حاطب يده بالكتاب على مسافة منهم وبدأ يصيح عاليًا، فأمر المقوقس أن يسمحوا له بالدخول وأن يحضر الكتاب.
قرأ المقوقس كتاب رسول اللهﷺ ثم قال: "لو كان هذا الرجل صادقًا فلمَ لم يستنْزل الهلاك على أعدائه"؟ فأجاب حاطب: "أنت تؤمن بالمسيح، ولقد أُسيئت معاملته على يد شعبه، ولكن هل دعا عليهم بالهلاك"؟ عند ذلك أعطى المقوقس إلى حاطب هدية وقال له: "لقد كانت كلماتك كلمات رجل حكيم أجاد في الإجابة على السؤال الموجّه إليه". عند ذلك أكمل حاطب حديثه وقال: "إنه كان قبلك رجلٌ يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فلا تستكبر، آمن برسول الله هذا، والله ما بشارةُ موسى بعيسى إلا كبشارةِ عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهلُ التوراة إلى الإنجيل، فكلُّ نبيٍّ أدركَ قومًا فهُم أمّتُه، والحق أن عليهم أن يطيعوه. وأنت ممن أدركه هذا الرسول، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكننا نأمرك به".
وعندما سمع المقوقس ذلك أشار إلى أنه سمع تعاليم الإسلام، فوجد أن هذا النبيّ لا يأمر بإثم ولا ينهَى عن خير، وأنه بحث في أمره فلم يجده بالساحر ولا بالكاهن، وأنه سمع ببعض نبوءاته التي تحققت.
ثم أرسل يطلب حُقًّا من عاج فوضع فيها الكتاب، وختمه ودفعه إلى خادمة عنده وأمرها بحفظه في مكان آمن. وكتب ردًّا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حفظ التاريخ نصه يقول:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من المقوقس ملك القبط إلى محمد بن عبد الله، سلام عليك، وبعد. فلقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرتَ فيه وما تدعو إليه وقد علمتُ أن نبيًّا بقيَ وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمتُ رسولك وأعطيتُه ألف دينار وخمسًا من الخيل هدية، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، إحداهما مارية والأخرى سيرين. وأهديتك أيضًا عشرين ثوبًا من نسيج مصر من أحسن ما فيها، وأهديتك بغلة لتركبها والسلام عليك".
أسلمت السيدة مارية والسيدة سيرين قبل وصولهما إلى المدينة..
لم تكن هاتين الفتاتين –مارية وسيرين- عاديتين، بل وفقًا لما جاء في خطاب المقوقس، كان "لهما مكانة عظيمة في القبط" وذكر في بعض المصادر أنهما أميرتان فيبدو أنه كان عند المصريين القدامى عادة تقديم فتيات أسرهم أو اللواتي ينتمين إلى عائلات نبيلة للزواج ممن يرغبون في تقوية العلاقات معهم. ومثال ذلك عندما ذهب سيدنا إبراهيم إلى مصر، قدم له زعيم مصر فتاة نبيلة (هي هاجر) للزواج ومنها أنجب إسماعيل، ومن خلاله، أصبحت أمًّا للعديد من القبائل العربية الأخرى، كما أنجبت مارية الولد الوحيد لرسول الله ﷺ الذي وُلد له خلال فترة النبوة.
تزوج النبي ﷺ مارية وأمرها بالتحجب منذ البداية وهذا الأمر الإلهي كان كما هو ثابت تاريخيًا خاص بالزوجات الحرائر.
أنجبت السيدة مارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الابن الوحيد الذي أنجبه بعد النبوة حيث وُلد في السنة الثامنة للهجرة وكانت جميع بنات الرسول ﷺ قد توفين إلا السيدة فاطمة رضي الله عنها.
عقّ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ في اليوم السابع من عمره، وَحَلَقَ رَأَسَهُ، وَتَصَدَّقَ بِوزن شعْرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينِ. وكان إبراهيم يحظى برعاية النبي ﷺ وقد أدخل السرور على قلبه (ﷺ) فكان يمر كل يوم على مارية ليرى إبراهيم ويلاعبه ويلاطفه..
وعن ولادته ورد في طبقات ابن سعد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ.
وورد في الطبقات أيضا أن رسول الله حينَ أَصْبَحَ قَالَ لصحابته: إِنَّهُ وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلامٌ وَإِنِّي سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ"
مرض إبراهيم قبل أن يكمل عامه الثاني، وذات يوم اشتد مرضه، فرفعه الرسول وهو ينازع ثك مات بين يديه ﷺ وكان ذلك في 29 شوال في السنة العاشرة للهجرة فدمعت عينا رسول الله ﷺ وكان معه عبد الرحمن بن عوف فقال له: أتبكي يارسول الله؟ فرد عليه الرسول: "نعم فإنها رحمة.. إن العينَ لتدمع وإن القلبَ ليحزن ولا نقول إلا مايرضي ربنا وإن على فراقك يا إبراهيم لمحزونون"
قالت السيدة سيرين رضي الله عنها: رأيت النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، لما حُضر إبراهيم وأنا أصيح وأُختي ما ينهانا فلمّا مات نهانا عن الصياح.
وقالت أيضًا: وغسّله الفضل بن عبّاس، ورسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جالس، ثمّ رأيته على شفير القبر ومعه العبّاس إلى جنبه، ونزل في حفرته الفضل وأُسامة بن زيد وكُسفت الشمس يومئذٍ فقال الناس: لموت إبراهيم، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا، وَادْعُوا اللَّهَ "
قد واسى رسول الله أم إبراهيم بكلمات جميلة حيث قال لها «إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ» وكان دائما يهتم بها ويراعيها.. لكنها بعد عام فقط فجعت بوفاة رسول الله (ﷺ) في ربيع الأول سنة 11هجرية وزاد حزنها ولزمت بيتها عابدة قانتة.
أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة أنهم سيفتحون مصر وأمرهم بإكرام أهل مصر إكرامًا لمارية فقد قال لهم: "ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً"، وفي رواية: "استوصوا بأهل مصر خيراً، فإن لهم نسبًا وصهرًا فأمّ إسماعيل بن إبراهيم منهم وأمّ إبراهيم ابن النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم منهم"
كان سيدنا عمرو بن العاص فاتح مصر وكان في جيشه عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي عندما وصل إلى قرية حفن وعلم أنها القرية التي ولدت بها زوجة الرسول، مارية، اهتم بها وبنى فيها مسجدًا في المكان الذي كان يوجد به أسرة أم المؤمنين وسماه باسمها، وكان أول مسجد يبنى في القرية، التي صارت تعرف باسمه بعد أن عاش واستقر بها حتى وفاته.
توفيت السيدة مارية عام 16 الهجري زمن سيدنا عمر - رضي الله عنه – فصلى عليها الجنازة ودفنت في جنة البقيع إلى جوار ابنها إبراهيم.