السيدة حليمة السعدية



 

لم يكن من عادة أكابر نساء مكة إرضاع أطفالهن، بل يُحضرن لهم المراضع، أو يرسلن الأطفال إلى مرضعات في القبائل الصحراوية المجاورة، كي تقوى أجسادهم ويشتد عودهم.

بعد ولادة رسول الله ﷺ بوقتٍ قصير، وصلت مجموعة من بني سعد، من عشيرة هوازن، إلى مكة ومعهم عشر نساء يلتمسن الرضعاء وبعد وقتٍ قريب ما بقي امرأة إلا وأخذت رضيعًا، باستثناء حليمة التي أخذت، على مضض، الرضيع اليتيم محمد، الذي رفضت المرضعات الأخريات تحمل مسؤوليته لأنه يتيم، فكان من حسن سعدِ "بني سعد" أنهم قاموا بتربية الطفل الذي كان ينوي الله تعالى أن يجعله أكبر وأعظم رسله.. وكانت حليمة له أمًا رقيقة ومحبة جدًا..

وقد روت عن ذلك ما يلي:

"خَرَجْتُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ، عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ قَدْ أَذْمَتْ فَزَاحَمْتُ بِالرَّكْبِ. وَخَرَجْنَا فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا، وَمَعِي زَوْجِي الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى. وَمَعَنَا شَارِفٌ لَنَا، وَاللَّهِ إِنْ تَبِضَّ عَلَيْنَا بِقَطْرَةٍ مِنْ لَبَنٍ، وَمَعِي صَبِيٌّ لِي إِنْ نَنَامُ لَيْلَتَنَا مَعَ بُكَائِهِ، مَا فِي ثَدْيِي مَا يُعْتِبُهُ، وَمَا فِي شَارِفِنَا مِنْ لَبَنٍ نَغْذُوهُ إِلَّا أَنَّا نَرْجُو. فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ لَمْ يَبْقَ مِنَّا امْرَأَةٌ إِلَّا عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأْبَاهُ، وَإِنَّمَا كُنَّا نَرْجُو كَرَامَةَ رَضَاعِهِ مِنْ وَالِدِ الْمَوْلُودِ، وَكَانَ يَتِيمًا، فَكُنَّا نَقُولُ: مَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمُّهُ؟ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ صَوَاحِبِي امْرَأَةٌ إِلَّا أَخَذَتْ صَبِيًّا، غَيْرِي، وَكَرِهْتُ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ آخُذْ شَيْئًا وَقَدْ أَخَذَ صَوَاحِبِي، فَقُلْتُ لِزَوْجِي: وَاللَّهِ لَأَرْجِعَنَّ إِلَى ذَلِكَ فَلْآخُذَنَّهُ. فَأَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُهُ فَرَجَعْتُهُ إِلَى رَحْلِي، فَقَالَ زَوْجِي: قَدْ أَخْذَتِيهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ وَاللَّهِ، ذَاكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ. فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ خَيْرًا. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ جَعَلْتُهُ فِي حِجْرِي فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيِي بِمَا شَاءَ مِنَ اللَّبَنِ، فَشَرِبَ حَتَّى رُوِيَ وَشَرِبَ أَخُوهُ - تَعْنِي ابْنَهَا - حَتَّى رُوِيَ، وَقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا هِيَ حَافِلٌ فَحَلَبَتْ لَنَا مَا سَنَّنَنَا، فَشَرِبَ حَتَّى رُوِيَ، وَشَرِبْتُ حَتَّى رُوِيتُ، فَبِتْنَا لَيْلَتَنَا تِلْكَ بِخَيْرٍ، شِبَاعًا رِوَاءً، وَقَدْ نَامَ صَبْيَانِنَا، قَالَتْ: يَقُولُ أَبُوهُ - يَعْنِي زَوْجَهَا -: وَاللَّهِ يَا حَلِيمَةُ مَا أَرَاكِ إِلَّا أَصَبْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً، قَدْ نَامَ صَبِيُّنَا وَرُوِيَ. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا، فَوَاللَّهِ لَخَرَجَتْ أَتَانِي أَمَامَ الرَّكْبِ قَدْ قَطَعَتْهُ حَتَّى مَا يَبْلُغُونَهَا، حَتَّى أَنَّهُمْ لَيَقُولُونَ: وَيْحَكِ يَا بِنْتَ الْحَارِثِ، كُفِّي عَلَيْنَا، أَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَتَانِكِ الَّتِي خَرَجْتِ عَلَيْهَا؟ فَأَقُولُ: بَلَى وَاللَّهِ وَهِيَ قُدَّامُنَا. حَتَّى قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ حَاضِرِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَقَدِمْنَا عَلَى أَجْدَبِ أَرْضِ اللَّهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ حَلِيمَةَ بِيَدِهِ إِنْ كَانُوا لَيُسَرِّحُونِ أَغْنَامَهُمْ إِذَا أَصْبَحُوا، وَيُسَرِّحُ رَاعِي غَنَمِي فَتَرُوحُ غَنَمِي بِطَانًا لَبَنًا حُفَّلًا، وَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا هَالِكَةً مَا بِهَا مِنْ لَبَنٍ. فَشَرِبْنَا مَا شِئْنَا مِنْ لَبَنٍ وَمَا فِي الْحَاضِرِ أَحَدٌ يَحْلِبُ قَطْرَةً وَلَا يَجِدُهَا، فَيَقُولُونَ لِرُعَاتِهِمْ: وَيْلَكُمُ أَلَا تُسَرِّحُونَ حَيْثُ يُسَرِّحُ رَاعِي حَلِيمَةَ؟ فَيُسَرِّحُونَ فِي الشِّعْبِ الَّذِي يُسَرِّحُ فِيهِ رَاعِينَا، وَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا بِهَا مِنْ لَبَنٍ وَتَرُوحُ غَنَمِي حُفْلًا لَبَنًا. 

وفي السنة الثانية من عمره الشريف ﷺ أعادته حليمة إلى منزله. فسرت والدته بمظهره الصحي والقوي وطلبت من حليمة إعادته معها مرة أخرى إلى الصحراء، فقد قال له أبوه بالرضاعة "نخشى عليه وباء مكة".. فقبلت السيدة آمنة فعادا به مسرورين جدا لكن بعد شهرين كان ذات يوم يَلْعَبُ مع أخيه خَلْفَ الْبُيُوتِ، وكانا يَرْعَيَانِ الغنم أيضا وفجأة جاء أَخُوهُ متلهفا وقال لأبويه: "أَدْرِكَا أَخِي الْقُرَشِيَّ، قَدْ جَاءَهُ رَجُلَانِ فَأَضْجَعَاهُ فَشَقَّا بَطْنَهُ" وتقول حليمة: فَخَرَجْنَا نَحْوَهُ نَشْتَدُّ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ مُنْتَقِعٌ لَوْنُهُ، فَاعْتَنَقَهُ أَبُوهُ وَاعْتَنَقْتُهُ (يعني عانقاه) ثُمَّ قُلْنَا: مَالَكَ أَيْ بُنَيَّ؟ قَالَ: "أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بَيَاضٌ فَأَضْجَعَانِي ثُمَّ شَقَّا بَطْنِي، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا صَنَعَا". قَالَتْ حليمة: فَاحْتَمَلْنَاهُ فَرَجَعْنَا بِهِ، فقال أَبُوهُ: وَاللَّهِ يَا حَلِيمَةُ، مَا أَرَى هَذَا الْغُلَامَ إِلَّا قَدْ أُصِيبَ، فَانْطَلِقِي فَلْنَرُدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ بِهِ مَا نَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ. فَرَجِعْنَا بِهِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ والدته اليسدة آمنة: مَا رَدَّكُمَا بِهِ؟ وَقَدْ كُنْتُمَا حَرِيصِينَ عَلَيْهِ. فقالت لها حليمة: لَا وَاللَّهِ إِنَّا كَفَلْنَاهُ وَأَدَّيْنَا الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا فِيهِ. ثُمَّ تَخَوَّفْتُ الْأَحْدَاثَ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ يَكُونُ فِي أَهْلِهِ. فَقَالَتْ أُمُّهُ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ بِكُمَا، فَأَخْبِرَانِي خَبَرَكُمَا وَخَبَرَهُ. قَالَتْ حليمة: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ بِنَا حَتَّى أَخْبَرْنَاهَا خَبَرَهُ (يعني بقيت تصر عليهما ليقولا لها الحقيقة فقصا عليها ما حدث) فقَالَتْ: فَتَخَوَّفْتُمَا عَلَيْهِ؟ كَلَّا وَاللَّهِ، إِنَّ لِابْنِي هَذَا لَشَأْنًا، أَلَا أُخْبِرُكُمَا عَنْهُ؟ إِنِّي حَمَلْتُ بِهِ فَلَمْ أَرَ حَمْلًا قَطُّ كَانَ أَخَفَّ وَلَا أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ نُورًا كَأَنَّهُ شِهَابٌ خَرَجَ مِنْ حِينِ وَضَعْتُهُ، أَضَاءَتْ لِي أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى، ثُمَّ وَضَعْتُهُ، فَمَا وَقَعَ كَمَا تَقَعُ الصِّبْيَانُ، وَقَعَ وَاضِعًا يَدَهُ بِالْأَرْضِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ.. فدَعَاهُ وَالْحَقَا بِشَأْنِكُمَا .. (يعني لا تخشيا عليه وأبقوه عندكما)..

 

وذكرت السيدة حليمة أنه كان يكبر بسرعة وكان يبدو أكبر من عمره فقد قَالَتْ: "وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ شَبَابَ الصَّبِيِّ فِي شَهْرٍ، وَيَشِبُّ فِي الشَّهْرِ شَبَابَ الصَّبِيِّ فِي سَنَةٍ، فَبَلَغَ سِتًّا وَهُوَ غُلَامٌ جَفْرٌ"

بعد عامٍ آخر أعاداه إلى والدته وجده.. ومما لا شك فيه قد عاد قوي البنية، وذي شخصية حرة ومستقلة، بسبب الخمس سنوات التي أمضاها في بني سعد. بالإضافة إلى فصاحة لسانه. 

لقد شعر النبيﷺ دائمًا بالامتنان لبني سعد لما لمسه من لطف منهم وهو طفلٌ بينهم.. وفي إحدى المرات، زارته حليمة في مكة بعد زواجه من السيدة خديجة، وكان ذلك في سنة جفاف عند بني سعد هلكت فيها الكثير من ماشيتهم، فتحدث سيدنا محمد ﷺ مع زوجته خديجة فأعطت حليمة جملًا لحمل هودجها، وأربعين رأسًا من الغنم أخذتهم إلى قومها. 

وكذلك من مظاهر رد الجميل لهم ما حدث بعد مرور ستين عام من إرضاع حليمة لرسول اللهﷺ، حيث أُسر، بعد معركة حُنين، أسرى من بني سعد فأطلق النبيﷺ سراحهم جميعًا كردّ جميل عن الأيام التي أمضاها بينهم في طفولته. 

فبعد هزيمة قبيلة هوازن في حنين، جاء وفد منهم مسلمين وقالوا لرسول الله إن من بين الأسرى أعمامك وأخوالك وحواضنك وقد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فقال ﷺ: "أمَّا ما كان لي ولبَني عبد المطَّلب فهو لكم، فإذا صلَّيتُ الظُّهر فقوموا فقولوا: إنَّا نستعين برسول الله على المؤمنين أوِ المسلمين في نسائنا وأبنائنا"، فلمَّا صلَّوا الظُّهر قاموا فقالوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما كان لي ولبَني عبد المطَّلب فَهو لكم"، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالتِ الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأت القبائل الأخرى تقول ذلك فقال رسول الله أيُّها النَّاس، ردُّوا علَيهِم نساءَهم وأبناءَهم (النسائي)

وأيضا جاءت حليمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فقام إليها وبسط لها رداءه فجلست عليه. 

هناك اختلاف في إسلام السيدة حليمة، ولكن أغلب الروايات ترجّح أنها وزوجها الحارث قد أسلما، وأسلم أخو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة عبد الله وأخته الشيماء أيضا رضي الله عنهما.

ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن الجوزي في الصحابيات في كتبه التلقيح والحدائق والوفاء وقال: "قدمت حليمة بعد الإسلام فأسلمت وزوجها وبايعاه".