مــــريَمتـــي الجزء الرابع



 

كما ذكرت آنفًا، كانت مريمتي تتوهم نتيجة مرضها أنني لم أكن أحبها أبدًا أو أنني أحبها أقل من الأخريات، لذا كانت تتشاجر معي كثيرا بينما أقامت علاقة طيبة مع الآخرين، وبالتالي كانت حياتنا مزيجًا من الحب والخلافات. لقد أحببتها جدًا وكانت رؤية وجهها في الأوقات العصيبة تخفف من توتري لكنها ظلت ثابتة على موقفها من أنني أحبها أقل من غيرها.

 

أثناء مرضها الأخير، أخبرتني السيدتان اللتان بقيتا معها كلٍ على حدة أنها أعترفت بخطئها. فقالت إحداهما: "لقد قالت السيدة مريم أنها كانت تظن غالبًا أن حضرة الخليفة لا يحبها، ولكنها اعترفت بأنها كانت مخطئة حيث قالت: "إن الطريقة التي تعامل بها معي أثناء مرضي أثبتت لي أنه يحبني حقًا فإن بقيت حية، سأعطيه كل ما أستطيع من الحب والاحترام".

و قالت السيدة الأخرى: "أخبرتني أنها متأكدة من أن حضرة الخليفة يحبها وأنها إذا بقيت على قيد الحياة، فستقضي بقية حياتها في خدمته".

شاءت الأقدار أن لا تقولا لي هذ إلا بعد وفاتها، ولو أخبرتاني بهذا في حياتها، لسعدت جدًا، كنت سأذهب إليها، وآخذ يدها بيدي، وأقول: "مريم، لا تقلقي. لا داعي لخدمتي أو إظهار حبك واحترامك لي. هذه الفكرة التي خطرت على بالك قد ردت لي كل ما أكنه لك من حب"

ربما كانت ستشعر بالرضا من هذا وكان قلبي سيسعد كثيرًا. لو تمكنا ولو لمرة واحدة من الوقوف وجهًا لوجه متفاهمين، كم كانت ستكون تلك اللحظة سعيدة لكلينا! لكن هذه لم تكن إرادة الله. ربما كانت تقصيراتنا تحتاج تضحية كبيرة منا.

الأمر الاستثنائي هو أنه على الرغم من مرضها الطويل، بقيت مريم بيغم واعية حتى أنفاسها الأخيرة. قبل وفاتها بيومين وعندما كانت في أشد درجات الضعف، قالت لي: "هل يمكنك شراء بعض مفارش المائدة الصغيرة؟." فطلبتُ من مريم الصدّيقة أن تذهب بالسيارة وتختار بعض المفارش على ذوقها. وعندما أريت مريم المفارش، كانت تشعر بالضعف والدوار الشديد. لكنها أجابتني: "إنها جميلة اشترِ دزينة منها".

اعتقدتُ أنها لم تكن في وعيها لأنه لم يكن في غرفة المستشفى إلا طاولة قهوة واحدة فقط، فأجبتها: "حسنًا" وتركتُ الغرفة بقلق والدموع في عينيّ. لكن بعد مرور بعض الوقت، خرجت خادمتها من الغرفة وقالت: "إنها تطلبك" وعندما دخلتُ، قاومتْ الشعور بالدوار رغم أنها كانت لا تزال ضعيفة. وبعد أن أشارت إليّ بالاقتراب، قالت: "لقد قلقتَ كثيرًا.. أنا لا أزال في وعيي، لم أطلب مفارش المائدة للمستشفى؛ بل طلبتها لبيتنا".

أشعر أن قلبها الضعيف جعلها تصدق هذا فقد تأثرت بشدة بالدوار المؤقت، لكنها فهمت ورأت قلقي. وبعد أن فكرت في الأمر، أدركت خطأها وتحدثت عن مفرش المائدة بصورة معقولة ومنطقية.

أثناء مرض مريم عرضت السيدة إقبال زوجة السيد شير محمد خان من أستراليا خدماتها بكثرة. حيث خدمت هذه السيدة الصالحة مريم ليل نهار لمدة شهرين ونصف، متناسية أطفالها وبيتها بطريقة جعلتني أقلق على حالتها النفسية. أدعو الله سبحانه وتعالى أن ينعم عليها وعلى أسرتها بأفضاله دومًا.

وهناك الدكتور حشمة الله خان الذي أتيحت له فرصة خدمتها لفترة طويلة ومتواصلة، كما استضافنا السيد شيخ بشير أحمد لعدة شهور وساعدنا بمختلف الوسائل.

واجتهد السيد ميان إحسان الله من لاهور ليل نهار فدعوت الله أن يهبه دائمًا حياة التقوى حتى الممات. وأيضًا أحضر الحكيم سراج الدين من "بتي غيت" وزوجته الطعام وكثيرًا ما كانا يزوراننا في المستشفى. وكان الدكتور معراج الدين يعاني من مرض باركنسون وكان رجلا مسنًا فكان يصل إلى المستشفى لاهثًا وكان يناديني إلى الخارج ليتحدث إلي عن صحة مريم. كانت عيناي في كثير من الأحيان تغرورقان بالدموع عند رؤية فضل الله سبحانه وتعالى هذا فقد ملأ عز جل قلوب الناس بمحبة شخصٍ ضعيفٍ مثلي.

وأظهر الكثيرون من لاهور أمثلة على الإخلاص العظيم وساعدونا بطرق عديدة. فقد ضرب السيد سيث محمد غوث من حيدر آباد مثالاً عظيمًا على الإخلاص يندر رؤيته حتى بين الإخوة بالدم إذ رغم وجوده في حيدر آباد البعيدة إلا أن كنّته وبناته قد سكنّ قاديان بدايةً ولفترة طويلة وكنّ غالبًا ما يزرنَ مريم. وعندما عدن إلى ديارهن، ترك سيث محمد أعماله واستقر في لاهور ثم عاد بعد وفاة زوجتي إلى مدينته.

كما زارنا الدكتور لطيف عدة مرات قادمًا من دلهي. لقد قدّم الكثيرون من أبناء عائلتي التضحيات بمحبة كبيرة وقالوا إن هذا هو واجبهم، فأنى لي أن أردّ جميلهم سوى بالدعاء؟

يا رب! ارفع درجات هؤلاء جميعهم وكذلك الذين غفلت عن ذكرهم بفضلك ورحمتك. يا رب أرى أن عبادك الصالحين يستحقون إمامًا أكثر إخلاصًا ورعاية مني. فماذا أقول أكثر لأشفع لهم أمامك؟

كان الإخلاص الذي أظهرته الجماعة عند وفاة مريم باعثًا على زيادة الإيمان، فببركة الارتباط برسول الله صلى الله عليه وسلم والمسيح الموعود عليه السلام نجد مثل هذا المستوى من الولاء في جماعتنا. تقبّل الله إخلاصهم وولاءهم وأبعدهم عن المعاصي وزادهم تقى وصلاح ووهب ذراريهم الصلاح والتقوى. اللهم آمين.

يا رب! أختتم مستذكرًا الحادثة الشهيرة المذكورة في البخاري وأقول إنني في الساعات الأخيرة من حياة مريم، حاولتُ أن أشغلها بحبك رغم أنّ قلبي كان ينزف، وضحيتُ بمشاعري لترجع روحها إليك وحبك راسخ فيها.

يا إلهي الحبيب! إن كنتُ قد فعلت ذلك لوجهك خالصة وتمجيدًا لاسمك، فإنني أدعوك في المقابل أن تزيل أية ذكريات مؤلمة لمريم من قلبي. يا رب! عندما وعدتْ مريم بتربية أطفال المرحومة أمة الحي ووعدتُ أن أحبها بشدة، دعوتك أن تغرس حبها في قلبي. لقد قبلتَ ذلك الدعاء ورغم أننا واجهنا الكثير من سوء الفهم، إلا أن حبها لم ينقص من قلبي. واليوم، أدعوك مرة أخرى أن تبقي حبها في قلبي حتى أدعو من أجلها، لكني أطلب منك إزالة أي ذكريات مؤلمة حتى أتمكن من خدمة دينك بأفضل طريقة حتى النهاية.

يا رب! إنني على يقين تام أن مريم الآن في الآخرة وأن الحقائق قد ظهرت لها. إذا كشفت عنها هذا فإنها لن تمانع ذلك، بل ستقول لك "لقد حثني زوجي في ساعاتي الأخيرة من أجل تنقية قلبي على نسيان حبه، لأن الله سبحانه وتعالى هو حبنا الحقيقي ويجب أن أركز فقط على التفكير فيه. وأنا شفعُ له وأتوسل إليك أن تسترجع الحب الذي دعاك من أجله؛ لكن ليس إلى الحد الذي ينسى فيه الدعاء من أجلي وإنما بقدرٍ يكفي ألا يسبب ذلك الحب له بالضيق وأن لا يصبح عائقًا في إنجاز عمله"

يا رب ما أروعك! لا أحد يعرف متى ستحين وفاتي، لذلك أستودعك اليوم أبنائي جميعهم وأحبابي وأبناء الجماعة الأحمدية كلهم. يا رب! كن لهم بالكامل ووفقهم أن يصبحوا لك بالكامل. وأدعوك يا رب ألا تشهد عيني وروحي آلامهم أبدًا وأن يزدهروا وينتشروا وينبتوا، وأن يقيموا مملكتك في العالم كله. وأن يرجعوا إليك من هذه الدنيا تاركين خلفهم ذرية لا تقل عنهم في خدمة دينك.

يا إلهي! لا تدعني أشهد ألمهم أبدًا ولا تدع روحي تشعر بالحزن عليهم. يا رب! ارحم روح أمة الحي خاصتي، وسارتي، ومريمتي. أيّدهن دائمًا وساندهن وآمن روعاتهن في الآخرة. اللهم آمين.

يا روح مريم! إذا أسمعك الله عز وجل صوتي، فاستمعي إلى رسالتي الأخيرة الصادرة من أعماق قلبي ثم اذهبي وادخلي في رحمة الله حيث ينتهي الحزن وحيث لا يُوجد ألم وحيث لا تؤلم ذكرى سكان الأرض أحدا.  والسلام

 

وَآخِرُ دَعْوانَا وَدَعْواکُمْ أنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِیْن

 

أبكي عليكِ کُلَّ یَوْمٍ وَلَیْلَة

أرثيكِ يا زوجي بقلبٍ دامي

صِرْتُ کَصَیْدٍ صِیْدَ فِي الصُّبْحِ غيلَة

قَدْ غَابَ عَنِّي مَقْصَدِي وَمَرَامِي

لَوْ لَمْ يكن تَأييد رَبِّي مُسَاعِدِي

لَاَصْبَحْتُ مَیْتًا عُرْضَةً لِسهامِي

وَلٰکِنَّ فَضْلَ الله جَاءَ لِنَجْدتي

وأنْقَذَنِي مِنْ زَلَّة الْاَقْدَام

یَا رَبِّ استرني بجنة عفوك

کُنْ نَاصِرِي وَمُصَاحِبِي وَمُحَامِي

اَلْغَمُّ کَالضِّرْغَامِ یَاْکُلُ لَحْمَنَا

لَا تَجْعَلَنِّي لُقْمةَ الضِّرْغَام

یَا رَبِّ صَاحِبْها بِلُطْفِكَ دَائِمًا

وَاجْعَلْ لَها مَاْوًی بِقَبْرٍ سَامِي

یَا رَبِّ أنْعِمْها بِقُرْبِ مُحَمَّد

ذِي الْمَجْدِ وَالإِحْسَانِ وَالْإکْرَام

كل الحب الدنيوي والأحزان الدنيوية مؤقتة. الحب الحقيقي هو لله سبحانه وتعالى حصرًا. من خلال التوحد معه يمكننا أن نلتقي بأحبابنا وبإبعاد أنفسنا عنه يمكننا أن نفقد كل شيء. الأشياء التي نعتبرها بفهمنا الناقص مؤلمة هي عادة بركات خفية من الله. وهكذا، أعلن أن قلبي قد يكون مخطئًا، لكن الله محقٌ دائمًا.

وَالْحَمْدُ لِلّهِ عَلیٰ کُلِّ حَال

الفقير إلى رحمة الله

                                                                            ميرزا محمود أحمد