السيدة أم أيمن (بركة بنت ثعلبة) رضي الله عنها
قبل الإسلام، كانت العبودية عادة متأصلة في المجتمع الجاهلي، وكان العبيد يعامَلون أسوأ أنواع المعاملة، وقد بيعت الطفلة الحبشية بركة بنت ثعلبة في مكة، ولكنها حظيت هناك بمعاملة ممتازة حيث أنها بفضل الله تعالى بيعت إلى والدي رسول الله ﷺ.
عندما كانت السيدة آمنة حاملًا برسول الله ﷺ، اعتنت بها بركة وشهدت ولادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفي الواقع تعتبر السيدة بركة الإنسان الوحيد الذي رافق رسول الله ﷺ منذ ولادته وحتى وفاته.
عندما بلغ الطفل محمد ﷺ السنة السادسة من عمره في مكة وكان يعيش مع والدته، تحت رعاية جده. قامت والدته بزيارة المدينة وأخذته معها لزيارة أخوال أبيه، ولزيارة قبر أبيه لأول مرة ورافقتهما بركة كي تقوم برعاية الطفل.
سافروا على ظهر ناقتين ووصلوا المدينة، ونزلت في الدار حيث توفي زوجها.. بعد البقاء في المدينة لمدة شهر تقريبًا، قررت السيدة آمنة العودة إلى مكة، وعندما وصلوا الى مكان يسمى الأبواء، على منتصف الطريق إلى مكة، مرضت آمنة وتوفيت ودفنت هناك.
وقد ذكرت بركة أن السيدة آمنة وقعت على الأرض فحاولت رفعها وعن هذا قالت: "ما أن رفعتها إلا وهي ترفع كفيها تريد أن تضم محمدًا فماتت" فأخذت بركة تمسح رأس اليتيم محمد ثم قالت له عاوني نحفر قبر أمك.. فساعدها في الحفر وهو يبكي.. قالت بركة: "ثم دفناها وأمسكتُ به بيده وهو يقول أمي أمي" وعاد اليتيم إلى مكة معها وأخذته إلى بيت جده الذي سأله حينما رآه أين أمك؟ قال ماتت فضمه إليه وقال أنت بني.
احتضنت السيدة بركة النبي ﷺ منذ أول عمره، ورعته رعاية الأب والأمّ وعوضته عن حنانهما بعد وفاة والدته، ولما كبر وتزوج السيدة خديجة رضي الله عنها، أعتقها وزوّجها عبيد بن زيد ثم انتقلت مع زوجها إلى يثرب، وهناك مات زوجها بعد أن ولدت منه أيمن فصارت بعد ذلك تكنى بأم أيمن وفقًا للعرف العربي وقد استشهد ابنها أيمن يوم حُنين.
بعد وفاة زوجها عادت السيدة أم أيمن إلى مكة وعاشت في كنف النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد قال النبي ﷺ: "من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة، فليتزوج أم أيمن" (لذلك قيل إن السيدة أم أيمن من المبشرين بالجنة).. بعد هذا الإعلان تقدم لها سيدنا زيد بن حارثة الذي تولى قيادة الجيش الإسلامي في معركة مؤتة، وبعد زواجهما ولدت منه أسامة بن زيد (رضي الله عنه) الذي لقبه الصحابة "الحِب بن الحِب" وكان قائد أول جيش إسلامي يتحرك بعد وفاة رسول اللهﷺ، وهكذا نرى كم كان شأن أم أيمن عظيمًا في الإسلام فقد كانت من جهة حاضنة للنبي ﷺ في طفولته، ثم أنجبت القائد العظيم أسامة بن زيد، وكذلك هاجرت الهجرتين مع المسلمين، وكانت مجاهدة عظيمة تخرج مع جيوش المسلمين تمرّض جرحاهم ومرضاهم، وفي أُحد أبدت شجاعة منقطعة النظير بعد أن أشيع خبر وفاة رسول الله ﷺ فكانت تنثر التراب في وجوه الفارين وتقول أعطوني سيوفكم، وقد تقدمت بالفعل إلى أرض المعركة وهناك أصيبت.
وهي أيضا من ضمن من دافع عن السيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك فعندما سألها رسول الله عن عائشة قالت: "حاشى سمعي وبصري أن أكون علمت أو ظننت بها قط إلا خيرًا".
كان رسول الله ﷺ يقول عن أم أيمن (رضي الله عنها): "هذه بقية أهل بيتي" و"إنها أمي بعد أمي".
لمّا هاجرت أمست بمنطقة اسمها المُنْصَرَف قرب الرَّوْحاء فعطشت وليس معها ماء وهي صائمة، فجهدها العطش فدُلّي عليها من السماء دلو ماء، فأخذته فَشَرِبَتْ منه حتى رويت فكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش .. وإني كنت لأصوم في اليوم الحارّ فما أعطش.
كانت السيدة أم أيمن كما ذكرنا حبشية فكانت لا تجيد نطق حرف الثاء مثلا فيوم حُنين كانت تدعو "سبت" الله أقدامكم بدلًا من "ثبت" وكانت أيضا لا تستطيع قول السلام عليكم فتقول لا سلام، أو سلام لا عليكم، فرخّص لها النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، أن تقول السلام فقط.
وهو كان دائمًا يضحك معها ويمازحها.. ومن ذلك أنها جاءت ذات مرة إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فقالت له: احملني، فقال: "أحملك على وَلَدِ الناقة"، فقالت: يا رسول الله إنه لا يطيقني ولا أريده، فقال: "لا أحملك إلاّ على ولد الناقة"، يعني هو كان يمازحها ويقصد أن الإبل كلّها ولد النوق، وهي كانت تظن أنه سيحملها على جمل صغير فلن يحتمل وزنها ورسول الله يصر ويقول لا على ولد الناقة فقط.
وهكذا كانت العلاقة بينهما قوية جدا مثل أي أم وولدها وكانت أحيانا تجبره على أن يأكل من أكلها وكانت تبكي لبكائه أيضا فقد ورد في النسائي عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، قَالَ لَمَّا حُضِرَتْ بِنْتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَغِيرَةٌ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضَمَّهَا إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَقَضَتْ وَهِيَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَكَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "يَا أُمَّ أَيْمَنَ أَتَبْكِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَكِ". فَقَالَتْ مَا لِي لاَ أَبْكِي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْكِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي وَلَكِنَّهَا رَحْمَةٌ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "الْمُؤْمِنُ بِخَيْرٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ تُنْزَعُ نَفْسُهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
ولا ننسى بكاءها عند وفاته ﷺ مع أنها صبرت عند وفاة زوجها الأول عُبيد وصبرت عند وفاة ابنها أيمن يوم حُنين وعند وفاة زوجها الثاني زيد بن حارثة في مؤتة، لكنها عندما توفي رسول الله ﷺ أتاها أبو بكر وعمر يزورانها، فلما رأتهما بكت، فقالا لها: ما يُبكيك؟! فقالت: أعلم أن رسول الله قد صار إلى خيرٍ مما كان فيه، ولكني أبكي لخبر السماء انقطع عنا.
فأخذ سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر يبكيان معها
وقد واظب سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر على زيارة أم أيمن (رضي الله عنهم جميعًا) في منزلها كما كان يفعل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولما استشهد سيدنا عُمَرُ بكت أمّ أيمن وقالت: اليوم وَهَى الإسلامُ
روت أم أيمن -رضي الله عنها- عن رسول الله ﷺ، وقد توفيت في أوائل خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وصلى عليها ودفنت في البقيع.