زينب بنت رسول الله (رضي الله عنها)
على الرغم من كبر سن أم المؤمنين السيدة خديجة (رضي الله عنها) إلا أنها قد أنجبت لسيدنا محمد ﷺ العديد من الأولاد، فخلال عشرة إلى اثنتي عشرة سنة أنجبت له ولدين وأربع بنات، حيث ولدت له أولاً القاسم، وبه أصبح يكنى، وفقًا للعرف العربي، وقد توفي عن عمرٍ يناهز السنتين، وبهذه الأثناء كانت زينب، الابنة البكر، قد وُلدت ثم وَلدت السيدة خديجة ثلاث بنات أخريات، بفارق سنة أو سنتين بينهن، وهنّ رقية، وأم كلثوم وفاطمة، ثم ولدت ابن رسول الله ﷺ الثاني عبد الله الذي توفي وهو لا يزال في المهد. كانت سلمى، مولاة عمة النبي ﷺ صفية، القابلة التي ولّدت هؤلاء الأطفال، ولكن السيدة خديجة هي من قامت برعاية وتربية أولادها بنفسها..
كبرت بنات رسول الله ﷺ وأدركن جميعهن نبوته صلى الله عليه وسلم فآمنّ به وتحملن الكثير من المشاق في سبيل الله تعالى.
في عدد هذا الشهر سنتحدث عن كبرى بنات رسول الله ﷺ السيدة زينب رضي الله عنها:
كانت شقيقة السيدة خديجة هالة متزوجة من الربيع، من بني عبد شمس، وولدت له ابنًا اسمه أبو العاص، الذي كان عندما كبر يحظى بالاحترام لاستقامة أخلاقه ونجاحه التجاري. وكانت السيدة خديجة تحبه كثيرًا وتعامله كما لو أنه ابنها، فوافقت هي وسيدنا محمد ﷺ على تزويجه ابنتهما الكبرى، زينب، حين بلغت سن الأنوثة، وكان زواجهما مليئًا بالمودة الحقيقية..
لم يعتنق أبو العاص الإسلام بدايةً، لكنه في نفس الوقت رفض طلب قريش بأن يطلّق زوجته زينب ابنة النبي ﷺ ويختار إحدى بناتهم بدلاً منها وقال لهم ردًا على ذلك: "لا والله لا أفارق صاحبتي، وما أحبُّ أن لي بها نساء الدنيا جميعًا".
لما هاجرت أسرة النبي ﷺ إلى المدينة المنورة؛ بقيت زينب في مكة مع زوجها أبي العاص، وحدث فيما بعد أن وقع أبو العاص من بين أسرى معركة بدر، وعندما أرسلت قريش بعض الرجال لدفع فدية الأسرى، بعثت زينب قلادة لها لفديته وهذه القلادة كانت قد أهدتها إياها والدتها السيدة خديجة عند زواجها. وعندما رأى النبي ﷺ هذا التذكار المؤثر من زوجته الحبيبة خديجة، تأثر كثيراً وبدأ يذكر خديجة واغرورقت عيناه شوقًا لها وقال لأصحابه: "إن زينب بعثت بهذا لافتداء أبي العاص فإن رأيتم أن تُطْلقوا لها أسيرها، وتردوا إليها هذه القلادة فافعلوا" فوافق الجميع، ولكن النبي ﷺ طلب من أبي العاص شرط حريته أن يرسل زينب للمدينة فور وصوله. وبناءً على ذلك، قام لدى عودته إلى مكة بإركابها في هودج على ناقة وإرسالها للمدينة تحت رعاية أخيه كنانة.. وكان رسول الله ﷺ يقول عن هذا: زوَّجْتُ أبا العاص بن الربيع فَحَدَّثَنِي وَصَدَقنِي وفي رواية أخرى: "وَوَعَدَنِي فَأوْفَى لي"
لكن حدث أن أُسر أبو العاص مرة أخرى مع أسرى سرية زيد بن حارثة، وهنا أجارته السيدة زينب، وأقرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوارها ونصحها بإكرامه دون أن تلاقيه في الخلوة، وتفصيل ذلك أنه بعد ثلاث أو أربع سنوات من هجرة السيدة زينب إلى المدينة أُسر أبو العاص في قافلة. وعندما وصلوا إلى المدينة دبّر أمر لقائه بالسيدة زينب وطلب منها أن تجيره، وعند صلاة الفجر نادت السيدة زينب رضي الله عنها بصوتٍ عالٍ أنها أجارت أبا العاص. وعندما انتهت الصلاة، سأل النبي ﷺ المجتمعين: "هل سمعتم ما سمعت؟ والذي نفسي بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتموه، وإنه يجيرُ من المسلمين أدناهم وقد أجرنا من أجارت" ثم ذهب إلى ابنته، وطلب منها إكرام أبي العاص بصفته ضيفًا، ولكنه لم يعد يحل لها كزوج، وهنا أرسل رسول اللهﷺ إلى آسري القافلة وذكّرهم بصلته مع أبي العاص وقال"إن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، كان ما نحب، وإن أبيتم فهو فَيءُ الله الذي أفاء عليكم، وأنتم به أحق"
فرغم أنه القائد ويحق له أن يأمرهم بما يراه مناسبًا إلا أنه طلب منهم بكل احترام أن يحسنوا لأبي العاص، وقال إذا أردتم فهذا ما أحب وإلا فإبقاؤه أسيرًا مع ما لديه من حقكم أيضا لأنه أسير حرب..
ولكن وافق جميع المسلمين من آسري القافلة على تحرير هذا الأسير، وإعادة ممتلكاته له.
هذا السخاء من رسول الله ﷺ والصحابة، وطبعًا استمرار تعلق زينب به وتعلقه بزينب شرح قلب أبي العاص للإسلام وعندما عاد إلى مكة ومعه ما أرجعه له المسلمون من أموال القافلة أدَّى إلى كل ذي مالٍ ماله، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيَّا كريما، فقال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أكل أموالكم. ثم انضم إلى زوجته في المدينة حيث جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما مرة أخرى دون عقد نكاح جديد، ولكن هذه السعادة العائلية للأسف لم تستمر طويلًا، لأن زينب قد توفيت في العام التالي بسبب ما كان أصابها في مكة أثناء هجرتها من المدينة..
فقد ذكرنا آنفًا كيف أن النبي ﷺ عندما أُسر أبو العاص في بدر قد طلب من أصحابه أن يفكوا أسره إذا أرادوا ويعيدوا قلادة السيدة خديجة لزوجته فوافقوا واشترط رسول الله ﷺ على أبي العاص أن يرسل زينب للمدينة وبالفعل عند عودته إلى مكة قام باتخاذ الترتيبات لإرسال زينب إلى المدينة المنورة، وأرسلها على هودج على ناقة مع أخيه كنانة فقام بعض القريشيين باللحاق بهما عازمين على إرجاعها. وكان هبّار بن الأسود أول من اعترض طريقها، وقد ضرب ناقتها بحربته، وهذا الشعور بالخوف الذي أصاب زينب وهذه الأذية التي أُلحقت بها حيث سقطت عَلَى صخرة فسالت منها الدماء حيث أنها كانت حامل فأجهضت. لما وقعت الناقة قام كنانة بإجلاسها في الحال، وبمجرد إظهار قوسه وكنانته الممتلئة بالسهام فرّ المطاردون، وبعد ذلك مباشرة، جاءه أبو سفيان وقال له: "إنك لم تصب فيما صنعت فلقد خرجتَ بزينب علانية على رؤوس الناس، وعيوننا ترى، وقد عرفت العرب جميعها أمرَ نَكبَتنا وما أصابنا على يدي أبيها محمد فإذا خرجت بابنته علانية رمتنا القبائل بالجبن ووصفتنا بالهوان والذل، فارجع بها واستبقها في بيت زوجها أيامًا حتى إذا تحدث الناس بأننا رددناها فسلها من بين أظهرنا سرًا وألحقها بأبيها، فما لنا بحبسها عنه حاجة"
فاتبع كنانة مشورته، وبعد بضعة أيام أخرجها ليلا ووصلت زينب سالمة إلى المدينة برفقة زيد بن حارثة الذي أرسله رسول الله ﷺ لجلبها من كنانة. لكن صحتها بدأت تتراجع بسبب هذه الحادثة التي تعرضت لها ولم يزل بها المرض إلى أن توفيت في السنة الثامنة من الهجرة.
أنجبت السيدة زينب من أبي العاص ولدًا وبنتًا، فأمّا الولد فاسمه عليّ، مات وهو صغير، والبنت اسمها أمامة تزوّجها سيدنا علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة الزهراء، وحيث أن أمّها زينب قد توفيت وهي لا تزال طفلة صغيرة، فقد عاشت مع جدّها صلى الله عليه وسلم الذي اهتم بها اهتمامًا كبيرا، وأحبّها حبًا شديدا، وكان يخصّها بالهدايا، ويأخذها معه إلى المسجد، ويحملها وهو يُصلّي.
عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها (البخاري).
وورد في سنن ابن ماجة عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَهْدَى النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَلْقَةً فِيهَا خَاتَمُ ذَهَبٍ فِيهِ فَصٌّ حَبَشِيٌّ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثُمَّ دَعَا ابْنَةَ ابْنَتِهِ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ فَقَالَ "تَحَلَّىْ بِهَذَا يَا بُنَيَّةُ ".
وهناك رواية أخرى عن السيدة عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ فِيهَا قِلادَةٌ مِنْ جَزْعٍ (يعني من خرز)، فَقَالَ: لأَدْفَعَنَّهَا إِلَى أَحَبِّ أَهْلِي إِلَيَّ. فظنت زوجاته أنه سيهديها للسيدة عائشة لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أمامة بِنْتُ زَيْنَبَ فَأَعْلَقَهَا فِي عُنُقِهَا.
أما عن ابن السيدة زينب فقد روى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي الْمَوْتِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "ارْجِعْ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ". ثم عادت فأرسلت في طلب أبيها فقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ (والقعقعة صوت الشيء اليابس إذا حُرّك والشن القربة اليابسة .. يعني هكذا كان ضعف جسد ذلك الصغير) وهنا فاضَتْ عَيْنَا رسول الله ﷺ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ما هذا؟ وفي رواية أتبكي يا رسول الله؟ فقَالَ ﷺ"هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"
وقال بعض العلماء أن هذا الصبي المريض كان علي بن أبي العاص بن الربيع وبعضهم قال إنها كانت أمامة لكن روايات أخرى تؤكد أن سيدنا علي قد تزوج من السيدة أمامة بعد وفاة السيدة فاطمة وأنجب منها محمد الأوسط حسب ما ورد في تاريخ الطبري وورد أيضا أنها تزوجت بعد وفاة سيدنا عليالمغيرة بن نوفل بن الحارث وأنجبت منه ولد اسمه يحيى. لذلك المرجح أن ذلك الصغير كان علي ابن السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.
توفِّيت السيدة زينب رضي الله عنها في العام الثامن من الهجرة النبوية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أما أبو العاص فقد توفي زمن سيدنا أبي بكر.
كانت السيدة زينب مثالا يحتذى في الإيمان فقد تركت زوجها الحبيب ولحقت بالمسلمين بالمدينة وتحملت ما جرى لها من أذية أثناء هذه الهجرة، وكانت مثالا في وفاء الزوجة كما رأينا.. أما أبو العاص فقد بكاها وحزن كثيرًا لفراقها وكذلك رسول الله ﷺ حزن على ابنته كثيرًا وأعطى النساء اللاتي يُغَسِّلنها إزاره وقال لهن أن يلفوا جسدها الطاهر به، وهذا ما روته إحداهن وهي أُمِّ عَطِيَّةَ، فقَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ "اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ – يعني بالأخير- كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي ". فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ –أي إزاره - فَقَالَ " أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ " يعني لفوها به.
لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحقي بسلفنا الخير، عثمان ابن مَظْعُونٍ"، فَبَكَى النِّسَاءُ، فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْلا يَا عُمَرُ! ثُمَّ قَالَ: "إِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ، فَمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ".
نختتم ببيتي شعر أنشدهما أبو العاص في أحد أسفاره إلى الشام حيث ذكر زينبًا فأنشد يقول:ذَكَرْتُ زَيْنَبَ لَمَّا وَرّكَت إِرَمَا فقلت سَقْيًا لشخصٍ يَسْكُنُ الحَرمَا
ذَكَرْتُ زَيْنَبَ لَمَّا وَرّكَت إِرَمَا فقلت سَقْيًا لشخصٍ يَسْكُنُ الحَرمَا
بنتُ الأمين جزاها اللهُ صالحةً وكـلُّ بَعْلٍ سَيُثْنِي بالذي عَلما.