منشأ اللقاحات ومساهمات العلماء المسلمين



 

ترجمة: مجلة التقوى

والسجن نعمة أحيانًا

لا يشعر عصفورٌ حبيسُ قفصٍ بأية متعة للحياة ولو كنت تقدم له طعامه وشرابه ووليفته بصورة مثالية. للحرية والانطلاق طعمٌ آخر، ولكن الطوارئ تفرض على الناس أحيانًا أن يَسجنوا أنفسهم ولو لم يسجنهم غيرهم. وتكفل الشريعة الحرية ولا تؤيد حبس النفس، أما عندما يكون التحرر والانطلاق مدعاة فساد فحبس النفس تؤيده الشريعة وتدعو إليه بلا أي شك، ولما كانت حياة التحرر والمخالطة مدعاةً لمحاولة فاشلة لإغواء يوسف عليه السلام من قِبل امرأة العزيز ونسوة المدينة، وكان السجن ملاذه الوحيد، دعا ربه أن يحول بينه وبين الحرية، وفضّل أن يودع السجنَ ويقيّد بالقيود ليُصرفَ عنه كيدُهن.

ومع حلول الأوبئة كان النبيّ محمدٌ ﷺ يأمر بالحجر الصحيّ المشدد، فلا دخول ولا خروج لمرضى ولا أصحاء حيث ينتشر الوباء، ومع أن كون البشر أحرارًا هو الأصل الذي خلق الله من أجله الخلق، إلا أن فرض القيود على الحركة يحل محله أحيانًا لأنه هكذا تقتضي المصلحة العامة، فللضرورة أحكامٌ.

يأسٌ ورجاء

لقد فرض فيروس كورونا الذي تسبب في أكثر من ستة وخمسين مليون إصابة وأكثر من مليون وثلاثمئة ألف حالة وفاة حول العالم قيودًا صارمة جدًّا لفترة تعدّت العام الكامل حتى الآن، حتى شُلّت حركة الحياة واحدودب ظهر كافة الأعمال وتأثر الاقتصاد العالمي تأثرًا هائلاً، ومع ذلك، فقد تناهت إلى سمعنا في الفترة الأخيرة بعض الأخبار السارة التي كانت كبارقة أمل بعد أوقات مظلمة كالحة السواد، وتنفس الناس الصعداء، وبدأت الوجوه تستبشر، والأفواه تبتسم، والقلوب تنشرح، لقد كنا في أمسّ الحاجة إلى هذا اللقاح،  خصوصًا بعد أن مررنا بعام لم تهدأ ثوراته الهادرة جراء اجتياح هذا الوباء، وظن الجميع أن الموت على بعد خطوتين منه، وربما أقرب.

 لقد أعلنت شركتا Pfizer و BioNTech عن توصلهما إلى لقاح جديد يحول بين الناس وبين هذا المرض القاتل، وأنه من خلال التجارب الطويلة قد حقق نسبة نجاح هائلة تقارب درجة الكمال، وقد أعلنت شركة Moderna هي الأخرى عن نتائج ناجحة للقاح ضد هذا الفيروس المميت.

تعتبر اللقاحات من أهم ابتكارات الطب الحديث، ولا شك أن الوقاية من الأمراض والحماية من تفشي الأوبئة قد غيّرت مسار الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم بشكل لافت للنظر، ومع اقتراب سباق تطوير هذا اللقاح الجديد في الشركات المعنية من خط النهاية، يجدر أن نلقي نظرة على تاريخ اللقاحات وأصولها وإلقاء بعض الضوء على الدور الأساسي الذي لعبه العلماء المسلمون في تطوير هذه التقنية.

بلاد المسلمين منشأ اللقاحات

من خلال تفتيش الكتب، يمكن العثور في الروايات التاريخية الغربية على أحد أقدم تدوين لتطعيم جرى خلال جائحة أخرى مشابهة وهي جائحة مرض الجدري الذي اجتاح إنجلترا القرن الماضي حتى كاد يدمرها، ولم يقتصر الأمر على هذا الحد، بل كان يُنقل عبر المحيطات لتدمير السكان الأصليين في أمريكا وخصوصًا في المستعمرات المنشأة حديثًا، وربما تم ذلك عمدًا. الجدير بالذكر أنه في ذلك الوقت الذي كانت فيه المجتمعات الغربية ترفض اللقاح والتطعيم بشكل صارم، كان التلقيح ممارسة روتينية في شمال إفريقيا وفي جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، وأجزاء أخرى من الشرق الأوسط. انظر إلى المفارقة، فبينما كان التطعيم شائعًا في العالم الإسلامي ويُعد إجراء صحيًّا عاديًا، كان يثير الرعب في إنجلترا في ذلك الوقت. قد يظن البعض أن فكرة مناهضة اللقاحات واعتبارها شيطانًا رجيمًا فكرة حديثة لم تظهر إلا في أيامنا هذه، أو هي ممارسات خاصة بدول العالم الثالث الأبعد عن العلوم والمدنية! على العكس، ففي جائحة الجدري سالفة الذكر في إنجلترا قد خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع احتجاجًا على فرض لقاحات ضد هذا المرض وقُوبلت باعتقالات وغرامات وأحكام بالسجن من قِبَل الحكومة، وحمل المحتجون لافتات تدعو لرفض اللقاحات كونها «لعنة تحل بالأمة»، وتقول إن «السجن أفضل من طفل مسموم»، وأُحرقت نسخ من القوانين التي تُلزم باللقاحات في الشوارع، وربما كانت فكرة أن يستعان  بممارسات من دولة غير متقدمة كالدولة العثمانية في مكافحة المرض قد أدت إلى اعتراضات شديدة ضد استخدامها، هكذا كانوا يرون أنفسهم، وهكذا كانوا يرون المسلمين، إلا أن الحقيقة كانت مختلفة. وكان السبب وراء هذا الخوف هو الغطرسة الرافضة لفكرة أن تكون التقنية المتبعة من قبل «شعوب جاهلة في مجتمعات جاهلة» ناجعة بين الإنجليز المتحضرين.

 

لقد كان استخدام اللقاح في إنجلترا مدعومًا من قِبل زوجة السفير الإنجليزي في اسطنبول بين عامي 1716 و1718، فقد أبهرتها هذه الممارسة بعد أن نجح الجراح الذي كان يعمل في السفارة في تلقيح ابنها. فكتبت عنه بالتفصيل في رسائلها، وعند عودتها إلى إنجلترا دافعت عن اللقاح كوسيلة للحماية من مرض الجدري، ورغم أنها واجهت معارضة شديدة من الكنيسة ومن العديد من الأطباء، إلا أنها نجحت أخيرًا في جعل التطعيم ممارسة اعتيادية هناك.

 لقد قام هذا الطبيب بدعم هذه الممارسة عندما قدم وصفًا علميًا للتلقيح إلى الجمعية الملكية في عام 1724. وقد أيد ذلك قاسم آغا، سفير طرابلس، الذي قدم تقريرًا مباشرًا لاستخدام اللقاح وسلامته في جميع أنحاء طرابلس وتونس والجزائر ومعظم بلدان العالم الإسلامي.

لقد كتب ذلك الدكتور في رسالته إلى الجمعية الملكية ما يلي: «لقد أدخل الشركس والجورجيون وآسيويون آخرون هذه الممارسة المتمثلة في تأمين لقاح ضد الجدري ويستخدمونه بالفعل طيلة أربعين عامًا تقريبًا بين الأتراك وغيرهم في القسطنطينية وسائر أنحاء الدولة العثمانية، ومنذ ذلك الحين لم تسجل أي حالة وفاة بسبب الجدري. وقد تعرض أولئك الذين تم إعطاؤهم هذا التطعيم لأعراض طفيفة للغاية، وقلة قليلة منهم كانوا يتوعكون أو يصابون بإصابات طفيفة ليس لها أي خطر؛ بالإضافة إلى ذلك فما يعتبره المنصف قيمًا هو أن هذا التطعيم لا يترك ندوبًا أو حفرًا على الوجه أبدًا.»

وقد شجع ذلك المسؤولين في بلاد الغرب على الاهتمام بتلك الأنباء، وتواصلوا مع مصابين سبق لهم أن تعرضوا لهجمات شرسة من الإصابة بالجدري، ولا سيما العبيد الذين كانوا يأسرونهم من إفريقيا ويرحلونهم للعمل في الأمريكيتين، ومن ثم تيقنوا من فاعلية اللقاحات، وأنها تقي الخاضعين لها من الإصابة بهذا المرض أبد الدهر، وبما أن الإسلام قد انتشر في القارة الإفريقية في عهد النبي ﷺ، فمن الممكن تماماً أن هؤلاء الأشخاص كانوا مسلمين قبل إجبارهم على ركوب سفن العبيد المتجهة إلى المستعمرات الأمريكية، ولذلك كانوا على دراية بممارسة التلقيح الذي كان شائعًا هناك بفضل الدولة العثمانية.

 

إنصافٌ رغم الاختلاف

رغم كون المسؤولين الإنجليز الذين تبنوا فكرة التطعيم مسيحيين مخلصين، إلا أنهم أيدوا أيضا  فكرة تفوق العلوم والطب الإسلامي على كل ما كان يمارس في أوروبا، ودعوا بشكل خاص إلى استخدام التطعيم للحماية من الجدري. وكانت هناك مفارقة غريبة في معظم المؤسسات الأوروبية والأنجلو أمريكية حيث اعتبروا الإسلام والمسلمين أقل شأنًا منهم، لكنهم احترموا الإنجازات العلمية والطبية الإسلامية، ومع أن هؤلاء المسؤولين قد واجهوا معارضة شرسة، إلا أنهم أقنعوا كلاً من القادة والمواطنين في مدينة «بوسطن» باستخدام التطعيم في النهاية لحماية المدينة من تفشي مرض الجدري، ولولا ثقتهم بالطب الإسلامي، لدمر الجدري مدينة «بوسطن» بلا مبالغة. ولولا إصرار السيدة زوجة السفير على نقل ما رأته وتيقنت من نجاحه في اسطنبول إلى بلادها لاستمرت إنجلترا أيضًا في معاناتها. وفي النهاية، كانت الريادة لـ Edward Jenner في استخدام أسلوب تلقيح أكثر أمانًا والذي أصبح معيارًا للصحة العامة في العصر الحديث، ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن أيًّا من هذا لم يكن ممكنًا لولا عمل المسلمين منذ العصور الوسطى حتى القرن الثامن عشر، ولم يكتف المسلمون بالتأكيد على أن الجدري والحصبة مرضان مختلفان، وهو اكتشاف قدمه الطبيب الفارسي محمد بن زكريا الرازي، بل طوروا أيضًا عملية مكافحته من خلال التلقيح في أجزاء متنوعة من العالم الإسلامي.

إن ما حدث في  الإمبراطورية العثمانية كان له أهمية كبيرة لأنه يُظهر أن العلماء المسلمين فيما بعد القرون الوسطى كانوا يتحلون بالمرونة والتقدم بما يكفي لاستخدام أساليب جديدة لمكافحة مشاكل الصحة العامة الخطيرة.

إن العديد من التطورات التي حدثت في الطب الحديث لم تكن لتتحقق بدون الإسهامات المبكرة للمسلمين، حتى خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر كان هناك اهتمام غربي كبير بالعلوم العربية، كانت الرغبة في المعرفة قوية لدرجة أن العديد من العلماء الإنجليز البارزين تعلموا اللغة العربية كي يفهموا النصوص الأساسية في مجالات تخصصهم بشكل أفضل، ولم يكن اكتشاف وتوثيق مذنّب هالي (الذي سمي على اسم Edmond Halley) ممكناً لولا الأساس الذي وضعه علماء الفلك المسلمون الأوائل، وكان الفيلسوف السياسي الإنجليزي الشهير John Locke يقرأ اللغة العربية ولديه نسخة من القرآن الكريم بينما كان الكثير من المسؤولين الإنجليز الآخرين يعرفون أيضًا ما يكفي من اللغة العربية والقرآن الكريم مما يتيح لهم البحث بشكل دقيق.

العلماء المسلمون علموا العالم

وعندما يتعلق الأمر بالاكتشافات والابتكارات الطبية، فغالبًا ما يتم تجاهل المصادر الإسلامية، بينما يُمنح الفضل للمؤسسات والأكاديميين الغربيين فقط، والحقيقة هي أن الكثير مما نعرفه عن الطب والفلك والفيزياء والعديد من المجالات الأكاديمية الأخرى لها جذورها في عمل العلماء المسلمين، والجميع يعلم ذلك جيدًا، وستكون اللقاحات الجديدة ضد الكوفيد 19 أحدث ابتكارًا في ممارسة عمرها قرون وسيقود المسلمون هذا البحث الرائد مرة أخرى، حيث توصل باحثان من أصول تركية في ألمانيا صاحبا شركة BioNTech، وهي شركة صغيرة للتكنولوجيا الحيوية تتشارك مع شركة Pfizer لإنشاء لقاح ضد هذا الفيروس؛ لقاح يوزع عالميًّا جالبًا بذلك الأمل والاطمئنان  للملايين.

إن اكتساب المعرفة ليس بجديد على الإسلام، فإن تعاليمه تحض المسلم على أن يسعى سعيًا حثيثًا من أجل مواساة البشرية وتقدمها، وقد ركز القرآن الكريم بشكل كبير على هذا المسعى ووجه المؤمنين إلى استكشاف واستخدام قدراتهم العقلية والملكات التي منحها الله لهم في خدمة البشرية.

لا شك أن أولئك الذين يسعون جاهدين للنهوض بالمعرفة لصالح الإنسانية سوف يجنون ثوابًا من الله على جهودهم. لقد لعب العلماء والمبتكرون المسلمون في الماضي وما زالوا يلعبون في الوقت الحاضر وحتى في المستقبل القريب دورًا أساسيًا في الحفاظ على المعرفة وتطوير تقنيات ما تزال تؤثر في عالمنا تأثيرًا إيجابيا.