تأملات في سورة الفاتحة
يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في كتابه "إعجاز المسيح":
"وهذه هي الفاتحة التي أخبر بها نبي من الأنبياء، وقال إني رأيتُ ملَكًا قويًّا نازلاً من السماء، وفي يده "الفاتحة" على صورة الكتاب الصغير، فوقَع رجلُه اليمنى على البحر واليسرى على البر بحكم الرب القدير، وصرخ بصوت عظيم كما يزْأَر الضِرغام، وظهرت الرعود السبعة بصوته وكلٌّ منها وُجِد فيه الكلام، وقيل: اختِمْ على ما تكلّمتْ به الرعود، ولا تكتبْ، كذلك قال الرب الودود. والملَك النازل أقسمَ بالحيّ الذي أضاء نورُه وجهَ البحار والبلدان، أن لا يكون زمان بعد ذلك الزمان بهذا الشأن".
يشير حضرته هنا إلى الكتاب المقدس (سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 10: 4): "وَبَعْدَ مَا تَكَلَّمَتِ الرُّعُودُ السَّبْعَةُ بِأَصْوَاتِهَا، كُنْتُ مُزْمِعًا أَنْ أَكْتُبَ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا لِيَ: «اخْتِمْ عَلَى مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الرُّعُودُ السَّبْعَةُ وَلاَ تَكْتُبْهُ»".
أسماء سورة الفاتحة:
"إن للفاتحة أسماء أخرى، منها سورة الحمد، بما افتُتح بحمد ربنا الأعلى. ومنها أُمُّ القرآن بما جمعتْ مطالبَه كلها بأحسن البيان" (إعجاز المسيح)
الفاتحة هي أم الكتاب: "اسمها أم الكتاب أيضا لأنها تضم ملخص تعاليم القرآن الكريم كلِّها وأريجها. (أيام الصلح)
"ومن أسماء هذه السورة "السبع المثاني"، وسبب التسمية أنها مُثنّى، نصفُها ثناءُ العبد للرب ونصفُها عطاء الرب للعبد الفاني (إعجاز المسيح)
يشير حضرته هنا إلى الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: "الحمد لله رب العالمين"، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: "الرحمن الرحيم"، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: "مالك يوم الدين"، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: "إياك نعبد وإياك نستعين"، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال : "اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين"، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
"وقيل سُمّيت سبعًا إشارةً إلى الأبواب السبعة من النيران، ولكل منها جزءٌ مقسوم يدفَع شُواظَها بإذن الله الرحمن. فمن أراد أن يمرّ سالمًا مِن سبع أبواب السعير، فعليه أن يدخل هذه السبعَ ويستأنس بها ويطلب الصبرَ عليها من الله القدير. وكل ما يُدخِل في جهنم من الأخلاق والأعمال والعقائد، فهي سبعُ موبقات من حيث الأصول، وهذه سبعٌ لدفع هذه الشدائد.
ولها أسماء أخرى في الأخبار، وكفاك هذا فإنه خزينة الأسرار. ومع ذلك حصرُ هذا التعداد إشارةٌ إلى سنوات المبدأ والمعاد، أعني أن آياتِها السبعَ إيماءٌ إلى عمر الدنيا فإنها سبعة آلاف" (إعجاز المسيح)
وقد أشار حضرة المسيح الموعود (عليه السلام) إلى "عمر الدنيا" أيضًا في كتابه كرامات الصادقين، حيث قال: "وفي تعيين "سبع" آية إشارةٌ إلى أن عمر الدنيا سبعة كما أن أيام أسبوعنا سبعة. وما ندري حقيقة السبعة على وجه التحقيق، أهي آلاف كآلافنا أو غير ذلك، ولكنا نعلم أنه ما بقي من السبعة إلا واحدًا، وقد أراد الله تصرفات جديدة بعد انقضائها، فيُهلك القرون الأولى عند اختتامها ويخلُق الآخرين. وفي الآية السادسة.. يعني {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} نكتةٌ أخرى، وهي أن آدم قد خُلق في اليوم السادس، وأُنعمَ عليه ونُفخ فيه روحُ الحياة في الجمعة بعد العصر، وكذلك يُخلَق رجلٌ في الألف السادس وهو آدم قومٍ أضاعوا إيمانهم، فيجيء ويُحيي قلوبهم، ويهَب لهم عرفانا غضًّا طريًّا، ويجعلهم بعد نومهم من المستيقظين".
ويقول عليه الصلاة والسلام في الجزء الخامس من البراهين الأحمدية:
"بل معنى هذه الآيات أنه لا يعلم أحد عن ساعة القيامة المعينة بالتحديد، ولكن الله تعالى أعطى الإنسان علمًا عنها- مثل العلم عن أيام الحمل- أن القيامة ستحل بسكان الأرض بعد مرور سبعة آلاف سنة. ومثال ذلك كما يولَد كل جنين إلى تسعة أشهر وعشرة أيام حتما، ولكن لا أحد يعرف لحظة ولادته بالتحديد، كذلك ستقوم القيامة أيضا إلى سبعة آلاف سنة، ولكن لا أحد يعلم عن ساعة حلولها بالتحديد. ومن الممكن أن يمر بعد نهاية السبعة الآلاف من السنين قرنان أو ثلاثة قرون، بصورة كسور ليست مما يُعتَدُّ به"
"اعلم يا طالبَ العرفان، أنه مَن أحلَّ نفسَه محلَّ تلاوة الفاتحة والفرقان، فعليه أن يستعيذ من الشيطان، كما جاء في القرآن، فإن الشيطان قد يدخل حِمَى الحضرةِ كالسارقين، ويدخل الحَرَمَ العاصم للمعصومين، فأراد الله أن ينجّي عباده من صَوْل الخنّاس عند قراءة الفاتحة وكلام رب الناس، ويدفعه بحربة منه ويضع الفأس في الرأس، ويخلّص الغافلين من النُعاس؛ فعلَّم كلمةً منه لطردِ الشيطان المدحور إلى يوم النشور. وكان سرّ هذا الأمر المستور، أن الشيطان قد عادى الإنسانَ من الدهور، وكان يريد إهلاكه من طريق الإخفاء والدُّمُور، وكان أحبَّ الأشياء إليه تدمير الإنسان، ولذلك ألزمَ نفسَه أن تصغي إلى كل أمر ينْزل من الرحمن لدعوة الناس إلى الجِنان، ويبذل جهده للإضلال والافتنان. فقدّر الله له الخيبةَ والقوارع ببعث الأنبياء، وما قتَله بل أنظرَه إلى يومٍ تُبعث فيه الموتى بإذن الله ذي العزة والعلاء. وبشّر بقتله في قوله: {الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، فتلك هي الكلمة التي تُقرأ قبل قوله: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وهذا الرجيم هو الذي ورد فيه الوعيد، أعني الدجّال الذي يقتله المسيح المُبيد. والرجمُ القتلُ كما صُرّح به في كتب اللسان العربية. (إعجاز المسيح).
وجاء في تفسير سورة الفاتحة للمصلح الموعود، خليفة المسيح الثاني (رضي الله عنه):
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
الله: اسم للذّات الأزلي الأبدي الحي القيوم الخالق المالك الرب لكل شيء. هذا الاسم ذاتي، وليس وصفيا. ولا يوجد اسم ذاتي الله عز وجل في أي لغة سوى العربية. وهذا الاسم لا يدل إلا على ذات الله تعالى. وهو اسم جامد وليس بمشتق.
والله اسمٌ للذات الإلهية الجامعة لجميع أنواع الكمال، والرحمنُ والرحيم يدلاّن على تحقُّق هاتين الصفتين لهذا الاسم المستجمِع لكل نوع الجمال والجلال.
ويقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في كتابه "إعجاز المسيح" أيضًا:
"ثم للرحمن معنى خاص يختص به ولا يوجد في الرحيم، وهو أنه مُفيضٌ لوجود الإنسان وغيره من الحيوانات بإذن الله الكريم، بحسب ما اقتضى الحِكَمُ الإلهية من القديم، وبحسب تحمُّلِ القوابل لا بحسب تسوية التقسيم. وليس في هذه الصفة الرحمانية دخلُ كسبٍ وعملٍ وسعيٍ من القوى الإنسانية أو الحيوانية، بل هي مِنّةٌ من الله خاصّةٌ ما سبقها عملُ عامل، ورحمةٌ من لدنه عامّةٌ ما مسَّها أثرُ سعيٍ من ناقصٍ أو كامل. فالحاصل أن فيضان الصفة الرحمانية ليس هو نتيجة عملٍ ولا ثمرة استحقاق، بل هو فضل من الله مِن غير إطاعة أو شِقاق. وينْزل هذا الفيض دائما بمشيّة من الله وإرادة، مِن غير شرطِ إطاعة وعبادة وتُقاة وزهادة. وكان بناءُ هذا الفيض قبْلَ وجود الخليقة وقبل أعمالهم، وقبل جهدهم وقبل سؤالهم، فلأجل ذلك توجد آثار هذا الفيض قبل آثار وجود الإنسان والحيوان، وإنْ كان ساريًا في جميع مراتب الوجود والزمان والمكان والطاعة والعصيان. ألا ترى أن رحمانية الله تعالى وسِعت الصالحين والظالمين، وترى قمره وشمسه يطلُعان على الطائعين والعاصين، وأنه أعطى كلَّ شيء خَلْقَه وكفَل أمرَ كلِّهم أجمعين. وما من دابّة إلا على الله رزقها ولو كان في السماوات أو في الأرضين، وأنه خلَق لهم الأشجار وأخرج منها الثمار والزهر والرياحين. وإنها رحمة هيّأها الله للنفوس قبل أن يبرَأها وإن فيها تذكرة للمتّقين. وقد أعطى هذه النعم مِن غير العمل ومن غير الاستحقاق، من الله الراحم الخلاّق. ومنها نعماء أخرى من حضرة الكبرياء، وهي خارجة من الإحصاء، كمِثل خلقِ أسباب الصحة وأنواع الحيل والدواء لكل نوع من الداء، وإرسالِ الرسل وإنزال الكتب على الأنبياء. وهذه كلها رحمانية من ربنا أرحم الرحماء، وفضلٌ بحتٌ ليس مِن عمل عامل ولا من التضرّع والدعاء.
وأما الرحيمية فهي فيضٌ أخصُّ من فيوض الصفة الرحمانية، ومخصوصة بتكميل النوع البشري وإكمال الخلقة الإنسانية، ولكن بشرط السعي والعمل الصالح وتركِ الجذبات النفسانية، بل لا تنْزل هذه الرحمة حقَّ نزولها إلا بعد الجهد البليغ في الأعمال، وبعد تزكية النفس وتكميل الإخلاص بإخراج بقايا الرياء وتطهير البال، وبعد إيثار الموت لابتغاء مرضات الله ذي الجلال. فطوبى لمن أصابه حظٌّ من هذه النِعم، بل هو الإنسان وغيرُه كالنَعم".
أكد رسول الله فضيلة البسملة حيث قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطَع"
يقول المصلح الموعود (رضي الله عنه) في تفسير سورة الفاتحة:
جاءت البسملة قبل كل سورة لأن القرآن الكريم:
- كخزينة لا تنفتح إلا بإذن الله عز وجل مصداقا لقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون): أي لا يمكن أن يطّلع على أسرار القرآن إلا من اصطفاه الله لهذا الغرض. وكذلك يقول الله تعالى: (يضل به كثيرا ويهدي به كثير) ومعنى ذلك أن اللفظ واحد، لكن كل إنسان يستفيد منه بحسب تقواه.
- والأمر الثاني الذي لأجله جاءت البسملة أولَ كل سورة هو نبأ التوراة بأن النبي الذي سوف يبعث مثيلا لموسى ستكون سنته المتبعة في تعاليمه أنه يبدأ كل ما يكلم به الناس باسم الله تعالى، كما جاء في العهد القديم: "ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه" (سفر التثنية 18 -19) فطبقًا لهذا النبأ العظيم كان لابد لمثيل موسى عليهما السلام أن يسمي اللهَ قبل أن يدعو الناس إلى رسالته، ويقول لهم إن كل ما أقوله لكم هو بإسم الله ومن لدنه، وليس من عند نفسي. لقد اقتضى تحقيق هذا النبأ أن توضع البسملة قبل كل سورة في القرآن المجيد، وأيضا كي ينتبه اليهود والنصارى ويستجيبوا له.. لئلا يستحقوا العذاب إذا رفضوا ما يقوله هذا النبي.. حسب ما أوحي به إلى موسى.
- الأمر الثالث الذي دعا إلى تقديم البسملة هو شهادة التوراة ": وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أُوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى.. فيموت ذلك النبي (التثنية 18 - 20). تصرح هذه الشهادة بأن الذي يفتري على الله الكذب مصيره الهلاك. ولذلك و إتماما للحجة على جميع الأمم، وخاصة على اليهود والنصارى.. تبدأ كل سورة باسم الله. وهكذا يتجلى صدق النبي لكل محقِّق يبصر نجاحه وازدهاره، إذ لو لم يكن رسولا صادقا فلماذا لم يهلكه الله؟ …
فقارئ أية سورة إذا أخطأ في فهم شيء منها أمكن تصحيح الخطأ بوجهين: إذا فكر الإنسان في معاني السورة ووجد رأيه موافقا للرحمانية والرحيمية فرأيه صحيح، وإن وجده مخالفا لهما فليعلم أن رأيه هو الخاطئ. وعلى هذا المنهج يكون كلٌّ من البسملة والسورة تفسر إحداهما الأخرى. فاجتماعهما في موضع ما يساعد الإنسان على فهم القرآن فهما صحيح.