الرعاية التسكينية في الإسلام
الرعاية التسكينية في الإسلام
إنّ كوفيد-19 هو الموضوع الساخن الحالي؛ إذ لا يمكن أن تمر عليك أكثر من 5 دقائق دون مصادفة مادة إعلامية أو محادثة تدور حول كوفيد-19 أو قواعد الحظر الشامل الحالي أو التخمينات عن تطلّعنا جميعًا لاستئناف الحياة أو أخذ اللقاح.
أحد الأشياء التي تشرفت بالقيام بها أثناء الوباء هو مواصلة العمل في مجموعة متنوعة من المجالات الطبية بدءًا من وحدة العناية المركزة ووصولاً إلى ممارسات الطبيب العام المحلية.
بدأت أفهم من خلال تجربتي أهمية دور الرعاية التسكينية، خاصة في هذه الأوقات غير المسبوقة حيث كان كثيرًا من الناس يقتربون من نهاية حياتهم بشكل غير متوقع بسبب كوفيد-19.
بدايةً، ما هي الرعاية التسكينية؟ إنّ الرعاية التسكينية مصطلح واسع يشمل الرعاية والعلاج اللذين تتلقاهما قرب نهاية حياتك، قد تكون في الأيام أو الأسابيع أو حتى السنة الأخيرة من حياتك.
يُعتبر المريض تحت بند "الرعاية التسكينية" رسميًا عندما تُتوقع وفاته خلال الـ 12 شهرًا القادمة. تشمل المبادئ الأساسية للرعاية التسكينية ما يلي:
1- تخفيف الأعراض التي يمكن أن تكون مزعجة للمرضى وعائلاتهم مثل الألم والقيء والتهيج...إلخ.
2- تقديم الدعم المادي أو المعنوي للمرضى وأسرهم.
3- يمنح المرضى وعائلاتهم الوقت والمساحة لتحديد رغباتهم تجاه الكيفية التي يودون أن تجري بها الأحداث في المستقبل و يُعرف هذا طبيًا باسم "استقلالية المريض" وهذا يعني أن للمرضى الحق في اتخاذ القرار بشأن رعايته الخاصة.
من خلال عملي في عيادة الطب العام المحلية حيث الأغلبية من الأقليات العرقية، وخاصة المسلمين، بدأت أفكر في المبادئ والنظرة الإسلامية تجاه الرعاية التسكينية والموت، إذ اختلفت الآراء و النقاشات التي سمعتها عن تلك التي تعلّمتها في كلية الطب.
إنّ عبارة "أنا مريض" أو "لست على ما يرام" نسمعها بشكل متكرر وهي جوهر الطب، فبدون المرض، لن يكون الطب موجودًا. ننظر في الطب إلى المرض على أنه شيء يجب علاجه أو تخفيفه ونقوم بتجربة العديد من الأدوية وإجراء التحقيقات حتى نصل إلى جوهر "المشكلة" وإذا لم نتمكن من الوصول إلى جوهر قضية ما أو في بعض الحالات لا يوجد حل أو دواء سحري، فنشعر بالهزيمة وخيبة الأمل والتشاؤم.
ولكن في الإسلام، هناك جانب آخر للمرض لا نلاحظه بشكل شائع في الطب الغربي، وهو أنه قد يُنظر إلى المرض على أنه نعمة من الله.
المرض نعمة؟ أعلم أن هذا يجعلنا كمتدينين نبدو كأننا متشددون، لكن تحمّلوني قليلًا. في الإسلام، يمكن اعتبار المرض عندما يتحمله المؤمن بصبر أنه وسيلة لزيادة روحانيته وعلاقته بالله تعالى. علاوة على ذلك، تصبح هذه الفكرة من خلال اعتبارها نعمة محتملة في حد ذاتها شكلاً من أشكال الرعاية التسكينية التي توفر أداة نفسية قوية لتحمّل الفترة الصعبة التي يمر بها المريض.
فكلما مرضنا، بغض النظر عن إسهامات الطب الحديث، سنتجه دائمًا إلى الله سبحانه وتعالى وندعوه لتوجيهنا ودعمنا وشفائنا إذ في نهاية المطاف "وإذا مرضت فهو يشفين". بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الألم والمشقة والمرض والتوتر عوامل لرفع درجات المؤمن، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" (البخاري) وقال أيضًا: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَة"
يمكّننا ذلك من فهم سبب تحويل المرض أو في الواقع أي بلاء إلى نعمة بالاعتماد على رد فعلنا تجاهه. إذ يمكّننا المرض في الإسلام من تطهير أنفسنا والتقرب من الله سبحانه وتعالى، فنرى أشخاصًا أثناء الرعاية التسكينية يعانون من مرض عضال، وكثير منهم، حسب تجربتي، يطلبون الدعاء ويتركون الباقي لله تعالى. إذن، يمكن النظر إلى المشقة التي يواجهها الكثيرون في نهاية الحياة على أنها طريقة لتطهير النفس للسماح للمؤمنين بالارتقاء في الجنة.
ومع ذلك، هذا لا يعني أنه لا ينبغي للمسلم محاولة جعل حياته مريحة قدر الإمكان وتجنب المشقة. روت السيدة عائشة (رضي الله عنه) ذات مرة: "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلَّا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد النَّاس منه "(البخاري). على هذا النحو، يسمح الإسلام باستخدام المواد الأفيونية في رعاية نهاية الحياة لأن الإسلام لا يدعم المعاناة غير المبررة لأتباعه، كما أن تخفيف الآلام الخفيفة والمتوسطة يمكن أن يوفر للمرضى الوضوح الذهني والراحة والقيام بالصلاة وغيرها من المهام التي تزيد من الروحانية.
وهناك جانب رئيس آخر للرعاية التسكينية وهو إجراء مناقشات حول "تصعيد الرعاية". هناك العديد من الطرق التي يمكننا من خلالها رعاية المريض وتقديم العلاج له حيث نركز بالنقاش مع المرضى الذين يتلقون العناية التسكينية على سيناريوهات معينة وما هي الإجراءات التي يريدوننا أن نتخذها. لا يعني ذلك أننا لن نعالجهم، بل يُسأل المرضى عن مدى شدة العلاج الذي يفضلونه، على سبيل المثال، لنفترض أن لدينا امرأة تبلغ من العمر 89 عامًا مصابة بسرطان في مراحله الأخيرة، وأصيبت بعدوى في الصدر في الشتاء، سيعطيها الطبيب العام أو فريق الرعاية التسكينية المضادات الحيوية ليروا ما إذا كانت ستتحسن. ثم ننظر إلى مدى ضعفها وفرص بقائها على قيد الحياة في الحالات المتدهورة، بعد ذلك نناقش ما إذا كانت تريد الذهاب إلى المستشفى لمزيد من العلاج بالمضادات الحيوية الوريدية (عن طريق التنقيط) أو إذا ما أصبحت أكثر مرضًا، فهل تريد البقاء في الجناح أو الذهاب إلى وحدة العلاج المكثف أو تفضل الذهاب إلى المنزل أو ما إذا كانت تريد أن تخضع للتنفس الصناعي، أو إذا توقف قلبها، هل تريد إجراء الإنعاش القلبي الرئوي CPR (الذي يتضمن ضغطًا صارمًا على الصدر والتحكم بمجرى الهواء و التنفس). يتم التعامل مع كل هذه الأسئلة بشكل منهجي مع فريق الرعاية التسكينية ويسمح للمريض باتخاذ القرارات قبل حدوث الموقف للتأكد من أنهم موت المريض بوقار وسلام.
ومن المتعارف عليه في الثقافة الإسلامية أن تقوم الأسرة برعاية أقاربها المرضى إذ ينظر إلى رعاية المريض على أنه مجلبة للثواب. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ..." (صحيح مسلم)
ويدعم هذا المنظور الطبي للرعاية التسكينية حيث نحاول بذل قصارى جهدنا لجعل المرضى مرتاحين بينما نتجنب العلاجات القوية التي قد تكون أكثر إزعاجًا من الحالة.
من أسماء الله الحسنى "الجبار"، وتتوافق في الطب الحديث المبادئ والأفكار التي يحملها اسم الله الجبار بشكل جميل مع مبادئ الرعاية التسكينية. ويوصف الجبار كما أوضح سيدنا علي كرم الله وجهه، بأنه الذي يجبر الكسير ويغني الفقير ويشفي الأسقام. ولكن عندما يحاول الطب الحديث محاكاة ذلك،لا يمكننا أبدًا تحقيق مستوى الكمال الذي يمكن أن يحققه الله سبحانه وتعالى؛ فالندبات والآثار الجانبية والمضاعفات شائعة في المجال الطبي.
عندما نستنفد في الرعاية التسكينية جميع إمكانيات "علاج" المريض، فنهدف إلى "جبر" أعراضه وتخفيف معاناته ومع ذلك، فإن الجبار وحده القادر على تلبية احتياجات عباده وتوفير الراحة القصوى لهم وهو يقوم بذلك لأنه الرحيم بعباده والغفار والودود والرحمن والرحيم.
في النهاية، تشترك مبادئ الرعاية التسكينية في العديد من السمات مع المعتقدات الإسلامية الموجودة قبل ظهور "الطب التسكيني" بوقتٍ طويل. لذلك من الضروري الرجوع لإرشاداتنا الدينية للنهوض في المستقبل، بغض النظر عن المجال الذي نعمل فيه.