لماذا يكون للأنبياء أزواج وأولاد؟



 لماذا يكون للأنبياء أزواج وأولاد؟

تنتاب بعض الجهال شبهة أنه إذا كان أنبياء الله متفانين في الله تعالى، ويفرون من الدنيا وملذاتها، فلماذا تكون لهم أزواج وأولاد؟

إن هؤلاء المعترضين لا يدرون أنه إذا كان الناس يصبحون متفانين وأسرى في هذه اللذات الفانية، فإنّ زمرة أنبياء الله تعالى تكون منزهة من هذه الأمور، فإن هذه الأشياء تكون مجرد خادمة لهم، ثم إن أنبياء الله تعالى يأتون لإصلاح الناس في كل مجال، فإذا لم تكن لهم أزواج وأولاد، فكيف يقومون بإصلاح هذه الجوانب من الحياة؟ لذلك أقول: لا يستطيع النصارى أن يقدموا للدنيا أية نموذج للمسيح في الشؤون الأسرية، لن يستطيعوا أن يقدموا شيئا، وما دام جاهلا بهذا الطريق وغير مطلع على هذه المدارج فما هو الإصلاح الذي يمكن أن يقوم به في هذا المجال؟ إن من كمالات النبي (أنه كان نموذجا كاملا في كل مجال). إن الدنيا ومتعها لا تؤثر على أنبياء الله تعالى شيئا، ولا يبالون بلذاتها الفانية شيئا، بل إن قلوبهم تنحدر إلى الله تعالى انحدارَ النهر السريع من فوق الجبل فيجرف تياره ما في طريقه كل شيء. باختصار، إن أنبياء الله تعالى لا يكونون أسرى لهذه الأشياء، بل تكون هذه الأشياء خادمة لهم. والنموذج السامي لكمالاتهم الأخلاقية لا يسبب أي حرج في الذكر والمتعةِ التي ينالونها في تصور الله والاستغراق فيه. إنهم يستغرقون ويتفانون في ذلك بحيث ينقطعون عن الدنيا كليةً، وعندما تتيسر مثل هذه الغيبوبة تصل من الله أصوات وتتم المكالمات الإلهية. ومن المسلَّم به أنه إذا صارت في شيء قوة الجذب فإنه يجذب إليه الأشياء الأخرى، وتبلغ في الأنبياء قوة الجذب لدرجة أن الدنيا وما فيها من أمور تحترق فيها، وتبدأ بجذب فضل الله وفيوضه إليها. وهذه السلسلة من الكلام تصبح فوق كلّ كلام آخر.

ضرورة المجاهدة الصحيحة:

ولكن هذا يتطلب مجاهدة صحيحة، ومن دونهها لا تنفتح هذا السبيل، كما قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت 70)، وإليه أشار بقوله (إياك نعبد). لا شك أن (إياك نعبد) مقدم على (إياك نستعين)، لكن التدبر يكشف أن رحمانية الله قد سبقت ذلك. أعني أنّ هناك قوةً جعلت الإنسان ينطق (إياك نعبد). من أين جاءته تلك القوة التي تجعله من حيث لا يدري، يقر بـ (إياك نعبد)؟ ألم يعطه الله تعالى إياها؟ فلا شك أنها عطيةٌ من الله وهبه إياها بمحض رحمانيته. وبتحريكها وتوفيقها يقول (إياك نعبد). ولو تدبرنا الأمر من هذا المنظور لوجدنا (إياك نعبد) متأخرا، ومن منظور آخر متقدما. أعني أن هذه القوة عندما تجعله يقول هذا فيصبح (إياك نعبد) متأخرا، وإلا فهو متقدم من منظور آخر. هذا هو مفهوم فلسفة النبوة. (الملفوظات، المجلد الثاني)