البيعة والتوبة والإثم
ينبغي أن يعرف المرء ما هي فائدة البيعة، ولماذا هي ضرورية، لأنه ما لم يعرف فائدة الشيء وقدره لا ينظر إليه نظرة تقدير. فمثلا توجد في بيته أنواع المقتنيات والأثاث دينار ودرهم وفلس وخشب وغيرهما، ولكنه يعتني بالشيء بحسب قدره وقيمته، فهو لن يعتني بالفلس بقدر ما يعتني بالدينار والدرهم، أما الخشب وما شابهه فيلقيه في زاوية من البيت. باختصار، كل ما كان ضياعه أشد خسرانا له حفظه أكثر. كذلك فإن أفضل ما في البيعة هو التوبة، ومعناه الرجوع، فالتوبة هي أن يهجر الإنسان معاصيه التي قد ازداد تعلقًا به واتخذها وطنًا له، وكأنه يعيش في الإثم. فالرجوع هنا يعني التطهّر من الآثام. وتركُ الوطن يشقّ على المرء جدا حيث يعاني صنوف المعاناة. يعاني المرء حين يهاجر من بيته، أما عند الهجرة من وطنه فيضطر للذهاب إلى بلد جديد قاطعا صلته عن أحبابه كلهم، تاركًا وراءه كل شيء من سرير ودار وفناء وجار وسكك وزقاق وأسواق، أعني أنه لا يرجع بعده إلى وطنه الأول أبدا. هذا هو مفهوم التوبة. إن أصدقاء المعصية هم غير أصدقاء التقوى. لقد سمى الصوفية هذا التغير موتا. إن التائب يتكبد خسائر كبيرة، ويواجه حرجًا كبيرا عند التوبة الصادقة، ولكن الله رحيم كريم، فلا يتوفى عبدَه التائب ما لم يعطه نعم البدل من كل هذه الخسائر. وهذا ما يشير إليه قول الله تعالى (إن الله يحب التوابين)، أي أن التائب يصبح بتوبته فقيرا عديم الحيلة، ولذا فإن الله تعالى يحبه ويدخله في جماعة الصالحين. إن الأمم الأخرى لا تؤمن بكون الله رحيما وكريما، فإن النصارى عدّوا الله تعالى ظالما والابن رحيما إذ لم يغفر الأب إثم البشر ولكن الابن فداهم بموته. هذا الفرق الكبير بين الأب والابن حماقة كبيرة، ذلك أن الوالد والمولود يتشابهان خُلقًا وعادةً، ولكنا لا نجد هذا التشابه هنا. لو لا أن الله رحيم لما عاش الإنسان لحظة واحدة. إن الذي قد خلق آلاف الأشياء النافعة للإنسان قبل عمله، كيف يقال أنه لا يقبل التوبة والعمل.
حقيقة التوبة
إن حقيقة الإنسان ليست أن الله تعالى خلق الإثم، ثم فكر في غفرانها بعد آلاف السنين. كلا، بل كما أن للذباب جناحين، جناح في شفاء وجناح فيه سم، كذلك للإنسان جناحان، جناح للمعاصي وجناح للخجل والتوبة والندم. والواقع أن المرء حين يضرب عبده بشدة يصيبه بعدها ندم، وكأن الجناحين يتحركان معًا، كذلك تمامًا إن مع السم ترياقا.
أما السؤال: لما خلق السم؟ فجوابه: لا شك أنه سم ولكنه قد أصبح إكسيرًا بعد ما مر بعمليات الدق والحرق كثيرا. لو لا الإثم لازداد في المرء سم الكبر ولهلك، ولكن التوبة تتلافاه. إن الإثم لا يفتأ يحمي الإنسان من آفة الكبر والعُجب. ما دام نبينا المعصوم صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله سبعين مرة، فكم بالحري أن نستغفره تعالى. إنما يأبى التوبة عن الإثم من يرضى به، أما الذي يرى الإثم إثما فهو يتوب عنه في نهاية المطاف.
معنى الحديث: "اعمل ما شئت فقد غفرت لك"
ورد في الحديث أن المرء حين يستغفر الله تعالى باكيا مرة بعد أخرى يقول الله له في الأخير: "اعمل ما شئت فقد غفرت لك". إنما معناه أن الله تعالى يغير ما قلبه بحيث يستنكر بعدها الإثم طبعًا، فكما أن المرء إذا رأى الشاة تأكل الوسخ فلا يرغب في أكله، كذلك لا يرتكب الإثم من غفر الله له. إن المسلمين يكرهون أكلم لحم الخنزير طبعًا، مع أنهم يقعون في آلاف المنكرات التي هي حرام وقد نهوا عنها. إنما الحكمة فيه أن الله تعالى قد جعل ذلك نموذجا للكراهية، واضحًا للإنسان أن عليه أن يكره الإثم على هذا النحو.
يجب عدم التهاون في الدعاء بسبب كثرة الآثام
على الآثم ألا يمتنع عن الدعاء نظرًا إلى كثرة آثامه، لأنه سيرى في آخر الأمر بسبب دعائه كيف بدأ يكره الإثم. إن الذين ييأسون من استجابة دعائهم لإيغالهم في المعاصي ولا يتوبون، فإنهم يصبحون في النهاية منكرين للإنبياء وتأثيراتهم. (الملفوظات)