أم المؤمنين السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها
تزوجت ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أولًا بمسعود بن عمرو الثقفي لكنه فارقها ثم تزوجت أَبا رُهْم بن عَبْدِ الْعُزَّىالذي فارق الحياة فترملت، وفي رواية وهي المرجحة أنه طلقها بعد أن علم بإسلامها حيث فرحت جدًا عند وصول أخبار انتصار المسلمين في خيبر، ثم بقيت في بيت أختها أم الفضل إلى أن تزوجها رسول اللهﷺ وهي في حوالي السادسة والعشرين أو الـ 27 من عمرها.
إسلامها:
كانت السيدة ميمونة كثيرةالترددعلىدارأختهاأمالفضلوزوجهاالعباسبنعبدالمطلبعمالنبي (صلىاللهعليهوسلم)،فكانتتسمعمنهماتعاليمالإسلام،وأخبار المسلمينالمهاجرين،وأخبارمعاركبدروأحدوقد تأثرت بذلك جدا وأحبت الإسلام جدا وبعد معركة خيبر وصلت لقريش بدايةً أخبار أن المسلمين قد هُزموا على يد اليهود ففرحالمشركون،وأخذوايسمعونالعباسكلامًا جارحا كلما لاقوه في الكعبة ولكن بعد فترة قصيرة وصلت أخبار انتصار المسلمين وجلاء اليهود عن خيبر فقام العباس ولبس أحسن ثيابه، وخرج إلى المشركين يخبرهم بما جرى بسعادة وكانت ميمونة (رضي الله عنها) في بيت شقيقتها أم الفضل وفرحت بهذه الأخبار ولما عادتإلىبيتها،كان زوجهامتضايقًا حزينًا لما سمع من خبر انتصار المسلمين أما ميمونة فلم تستطع إخفاء فرحتها وهنا على ما يبدو بعد أن عرف زوجها بمحبتها للإسلام أو ربما إسلامها، طلقها وانتقلت للإقامة في بيت أختها زوجةالعباس وهناك بقيت عابدة قانتة لله تعالى.
زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نعلم أن النبي ﷺ قد وقّع مع مشركي مكة "صلح الحديبية" في العام السادس للهجرة، وكان من شروط هذا الصلح أن يرجع المسلمون ذلك العام إلى المدينة دون أن يعتمروا؛ على أن يأتوا إلى مكة لأداء العمرة في العام الذي يليه، وهذا ما حصل.. ففي السنة السابعة للهجرة، ذهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ألفين من أتباعه إلى مكة ودخلوها بدون أسلحة ما عدا سيوفهم التي كانت في أغمادها، كما نص اتفاق الحديبية.
ومكث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاثة أيام بعد أن طاف بالكعبة وسعى بين الصفا والمروة وسميت تلك العمرة عمرة القضاء.. وأثناء هذه العمرة اقترح عليه عمُّه العباس أن يتزوّج شقيقة زوجته برة بنت الحارث، فوافق الرسول - صلى الله عليه وسلم.
وقيل في رواية إنها كانت تدعو الله وتتمنى أن تكون زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن فارقها زوجها بعد إسلامها وأنها أسرّت بذلك لأختها أسماء وزوجها جعفر وأن جعفر هو من أخبر العباس بذلك وطبعا لمعرفة سيدنا العباس بتقواها وإيمانها اقترح هذا الزواج على رسول الله ﷺ فقيل بأنها هي المقصودة في الآيةالكريمة "وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ".
كيف تمت هذه الخطبة؟
بعد أن عرض عليه عمه العباس هذا الزواج، بعث رسول الله ﷺ ابن عمه جعفر بن أبي طالب زوج أختها الصغرى أسماء يخطبها وروي أنه لما وصل إليها وزف لها الخبر كانت على بعيرٍ لها فقالت "البعير وما على البعير لرسول الله هبة له" فأيضا من هذه القصة استُنتج أنها هي التي نزلت بها الآية آنفه الذكر. وهكذا وافقت بكل سرور طبعا.. ولكن حيث كانت المدة التي اتفق عليها الرسول ﷺ مع أهل مكة للعمرة هي ثلاث أيام فقط؛ فقد كان عليه مغادرة مكة قبل أن يتم زواجه من السيدة ميمونة، وهنا على ما يبدو انتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصة الزواج هذه عسى أن يكون حلقة وصلٍ بينه وبين أهل مكّة وحاول إقناعهم أن يتم العرس في مكة فهذه أيضا فرصة لتبليغ الرسالة فقد قال لهم: "ما عليكم لو تركتموني فأعرستُ بين أظهركم، وصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه؟"، ولكنهم للأسف رفضوا ذلك وقالوا له: "لا حاجه لنا بطعامك". فأمر رسول اللهﷺ أصحابه بالانسحاب والتوجّه شطر المدينة حيث التزم - صلى الله عليه وسلم - بتنفيذ شروط الاتفاق التزامًا دقيقًا، وذلك بسبب عمق التزامه بأوامر الدين الذي يفرض عليه الوفاء بالعهود، ولحرصه البالغ على احترام مشاعر أهل مكة، وقد اضطره ذلك إلى ترك زوجته الجديدة السيدة ميمونة خلفه في مكة، ورتّب معها أن تلحق به مع مؤخرة القافلة التي تقوم بجمع الحاجيات الشخصية للمعتمرين بعد انسحابهم حيث خلف أبا رافع في هذه المهمة ولكي يأتي له بميمونة أيضًا، وأثناء لحاق ميمونة وأبي رافع بالمسلمين قام سفهاء مكة بأذيتها وأذية رسول اللهﷺ ولم يكفوا ويرجعوا إلى أن قال لهم أبو رافع "أتريدون نقض العهد والمدة"؟
ثم لحقت السيدة برة برسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمته في المكان الذي عسكر فيه واسمه "سَرِف" وهو يقع على بعد سِتَّة أَمْيَال من مَكَّة وهناك غيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها إلى ميمونة.
كانت السيدة ميمونة رضي الله عنها اسمًا على مسمى فقد تزوجها رسول الله في مناسبة ميمونة وهي دخوله وصحابته إلى مكة بعد طول غياب وأيضا بعد هذه العُمرة التاريخية، قد انضم إلى الإسلام قائدان شهيران من قادة العدوّ، واللذين أثبتا بعد ذلك أنهما قائدان فذّان من قادة الإسلام. وهما سيدنا خالد بن الوليد - رضي الله عنه - الذي هزّت بطولته وعبقريته دعائم الإمبراطورية الرومانية، وانضمّت إلى الدولة الإسلامية تحت قيادته الدول المحيطة الواحدة تلو الأخرى. والقائد الثاني هو سيدنا عمرو بن العاص - رضي الله عنه - الذي فتح مصر.
وأسلم كذلك بعد عمرة القضاء حارس الكعبة عثمان بن طلحة، ولما وصلوا ثلاثتهم إلى رسول الله معلنين إسلامهم قال صلى الله عليه وسلم "إن مكة ألقت إلينا أفلاذ كبدها"
وعن إسلام سيدنا خالد وهو كما ذكرنا ابن أخت السيدة ميمونة ورد أنه بعد أن غادر الرسولﷺ مكة وقف في مجموعة من الناس وقال: "لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا شاعر وأن كلامه من رب العالمين فحق على كل ذي عقل أن يتبعه".
وأيضا نذكر أن من بركات هذاالزواجكانتأليفقلوببنيهلال –قبيلة ميمونة-وكسبتأييدهم،فاستمعوا لرسالة الإسلاموبدأوا يدخلونه محبةً واقتناعًا.
شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق السيدة ميمونة وأخواتها والتي كانت ولا زالت شاهدًا على تقواهن:
كما رأينا كانت أخواتها جميعًا من كبار الصحابيات وزوجات لكبار الصحابة وقد شهد لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهن "مؤمنات" وهذا يدل على صدق إيمانهن وتقواهن فقد روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأخوات المؤمنات: ميمونة، وأم الفضل، وسلمى امرأة حمزة، وأسماء بنت عُميس أختهن لأمهن" وفي الواقع عندما نتأمل صفحات التاريخ نعلم لمَ شهد لهن رسول الله ﷺ بذلك فقد كن بالفعل تقيات مؤمنات وخصوصا طبعًا أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها التي أمضت حياتها تتفقه بكتاب الله وتستمع للأحاديث النبوية من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتهتدي بما يقوله، فعلى سبيل المثال كانت تكثر من الصلاة في المسجد النبوي وذلك لعلمها بفضل الصلاة فيه، فذات مرة اشْتَكَتْ امْرَأَةً من مرض فَقَالَتْ: لَئِنْ شَفَانِي اللهُ، لَأَخْرُجَنَّ لأصلي فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وفعلا شُفيت، فَتَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، ثم ذهبت إلى مَيْمُونَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهَا وأَخْبَرَتْهَا بالقصة فَقَالَتْ لها ميمونة رضي الله عنها: اجْلِسِي، فَكُلِي مَا صَنَعْتُ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ"
وكانت السيدة ميمونة أيضا تقية تصل الرحم بشهادة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لها التي قالت: "كانت ميمونة من أتقانا لله وأوصلنا للرحم".
وكانت أيضا حريصة أشد الحرص على تطبيق حدود الله، ولا يثنيها عن ذلك شيء ولا حتى صلة قرابة، فقد روي أن قريبًا لها دخل عليها مرة، فوجدت منه ريح شراب، فقالت: "لئن لم تخرج إلى المسلمين، فيجلدونك، لا تدخل علي أبدا".
كما صححت مفاهيم بعض الصحابة حول التعامل مع زوجاتهن بفترة الحيض ومن ذلك ما روته مولاة لها حيث قالت: أَرْسَلَتْنِي مَيْمُونَةُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ –يعني ابن أختها- فرأت أنه ينام في فِرَاشِ غير فراش زوجته ابنة مِشْرَح، فسألتها مَا بها فقالت لها إن زوجها يعتزلها هَكَذَا في فترة الحيض فلما رجعت أخبرت ميمونة بذلك فأرسلتها إليه مرة أخرى وقالت لها قولي له كذا وكذا يعني كيف كان رسول الله ﷺ يتعامل مع زوجاته ويهتم بهن في فترة الحيض ومن ذلك أنه كان ينام معهن في نفس الفراش، وهكذا فضلها كبير جدا في تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي تسربت إلى بعض الناس.
وهي في الواقع كانت من المكثرات لرواية الحديث الشريف، ولم يسبقها في ذلك سوى أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنهما.
ومما ساهم في نقل الروايات عنها أنه كان لها أولاد أخوات كثر وهم نقلوا عنها إما مباشرة أو أنهم رأوا أمورًا من رسول الله ﷺ لما كانوا يبيتون عند خالتهم فرأوا كيف كان يتصرف رسول الله ﷺ أو ماذا كان يقول وربما من الأحاديث الشهيرة ما رواه ابن أختها عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ، أَنَّ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، أَلَا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: "بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، وَاللهُ يَشْفِيكَ، مِنْ كُلِّ دَاءٍ فِيكَ، أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ"
وهناك أيضا رواية مهمة روتها عن كشف رآه رسول الله ﷺ وهذه القصة تبين من ناحية القوة القدسية لرسول الله ﷺ ومن ناحية أخرى تبين أنالآخرين أيضا يشتركون أحيانا مع صاحب الكشف..
تقول ميمونة - رضي الله عنها: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - نائما عندي في إحدى الليالي في المدينة، فاستيقظ لصلاة التهجد. وبينما هو يتوضأ سمعتُه يقول: لبيكَ لبيك لبيك، نُصرتَ نُصرتَ نُصرتَ. فقلت: يا رسول الله! هل جاءك أحد كنتَ تتحدث معه؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: نعم، لقد لقِيني الآن في حالة الكشف وفدٌ من بني خُزاعة، ورأيتهم يسرعون إلي صارخين بأصوات عالية ويقولون: ننشدك الله، يا محمد، بما عاهدتنا عليه أنت وآباؤك. إننا ما زلنا ننصرك، ولكن قريشًا قد نقضت عهدها، فبيّتونا بين ساجد وراكع، وقتلوا منا عديدًا، وقد جئناك الآن مستنجدين. وعندما رأيتُ وفدَهم قلت لهم: لبيكَ لبيك لبيك، نُصرتَ نصرتَ نصرتَ"
فهنا نرى أن السيدة ميمونة - رضي الله عنها - لم تر وفد الخزاعيين، ولكنها سمعت ما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة الكشف، وبعد أيام وقع بالفعل ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
مواقف أخرى للسيدة ميمونة:
أعتقد أن من المهم التوقف عند قصة ذكرناها سابقا لما تحدثنا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهو أن رسول الله ﷺ لما اشتد به المرض كان في بيت أم المؤمنين ميمونة وقد طلب إذن زوجاته أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فأذِنّ له، ولكن طبعا يبقى موقف السيدة ميمونة هو الأقوى لأنه كان في بيتها وكان من الممكن أن تحاول إقناعه أن يبقى عندها وأن تمرضه هي وتنال هذا الشرف لكنها دون أي تردد نزلت عند رغبته صلى الله عليه وسلم.
ويروى أيضًا أنها رأت حبة رمان مرة على الأرض فأخذتها وقالت "إن الله لا يحب الفساد" لم تقبل أن تُهدر حبة رمان واحدة أما اليوم فنرى للأسف كيف يسرف المسلمون ويهدرون كميات كبيرة من نعم الله تعالى.
وفاتها:
لقد عاشت السيدة ميمونة بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم خمسين عامًا، وقد طلبت أن تدفن في المكان الذي تزوجت فيه من رسول الله ﷺ في سرِف وكان عمرها إحدى وثمانون عاما عند وفاتها، فالذي حدث أنها كانت في الحج في مكة ومرضت مرضا شديدا فقالت أخرجوني من مكة فقد أخبرني رسول الله ﷺ أني لا أموت بمكة ثم طلبت أن تنقل إلى سرف وبالتحديد إلى المكان الذي تزوجها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتموت هناك وهذا ما حدث بالفعل وهناك توفيت ودفنت رضي الله عنها..
يعرف العالم قصصًا كثيرة عن الحب، منها الحقيقي والخيالي، ولكن لا شيء من بينها أكثر تحريكًا للقلب من هذه القصة.. السيدة ميمونة قد دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مرة في خيمة وسط الصحراء ولشدة حبها لرسول الله ﷺ أرادت أن تموت وتدفن في نفس المكان..
نرى أن أعداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يهاجمونه بسبب تعدّد زوجاته ويقولون إن وراءها حب المتع الدنيوية وإلى آخره.. إلا أن إخلاص زوجاته له، وحبّهن الكبير له يكذب هذا الادعاء..
هذا الحب والإخلاص يثبت أن حياة الرسول ﷺ الزوجية كانت طاهرة ولا أنانية فيها، وكانت غنية بالمشاعر الروحية. ولقد كان أمرًا غريبًا وفريدًا أننا لا نجد رجلاً عامل زوجته الواحدة معاملة طيبة تقوم على المودّة والرحمة، كما عامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - زوجاته أجمعين.
ولو كانت مشاعر اللذة هي المحرك لحياته الزوجية، لوجدنا يقينًا أن زوجاته يختلفن معه ويعاندنه، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد كانت كل زوجاته في حالة ود وتوافق معه، وكان هذا الود نتيجة لعدم أنانيته ولأسوته الحسنة وسلوكه الراقي ونتيجة لذلك أعطَيْنَه حبًّا وإخلاصًا كبيرًا.. فهنا السيدة ميمونة ترى في لقائها الأول برسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرى غالية عزيزة، فلو كانت علاقتها الزوجية معه فيها أي نوع من الخشونة أو لو أنه كان يفضّل بعض زوجاته على بعض بسبب جمالهن أو صغر سنهن كما يُزعم لما كانت لتحفظ ذكرى ذلك اللقاء بود عميق واعتزاز بالغ!.
ولو أن ذكرياتها مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يشوبها أيّ جفاء أو مرارة، لكان جديرًا بها أن تنسَى كل شيء حول هذا اللقاء. فقد عاشت طويلاً بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وماتت بعد أن بلغت من العمر عتيًّا، ومع ذلك لم تنس أبدًا ماذا كان يعني بالنسبة لها لقاؤها مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وعند موتها، وهي في الثمانين من عمرها، يعني كانت في عمر تختفي فيه جميع المباهج الجسدية، ولا يحرك القلب في مثل هذا العمر غير القيم العليا، ولا يؤثر في النفس والوجدان سوى الفضائل الكريمة، إلا أننا نراها قد طلبت أن تُدفن في نفس المكان والبقعة التي عسكر فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثناء عودته إلى المدينة، والتي لقيته فيها لأول مرة... وهذا إنما يدل على مدى رقي معاملته لها ﷺ.
كانت هذه مشاعر زوجاته تجاهه جميعا فقد خيرهن الله تعالى في القرآن الكريم بين البقاء مع رسول الله ﷺ ضمن ظروفه وقلة موارده المادية وبين أن يسرحهن وينلن متع الدنيا لكنهن جميعا آثرن البقاء معه صلى الله عليه وسلم وبقين بعد وفاته قانتات عابدات كما أمرهن الله تعالى الذي قال عنهن: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ".
لقد كانت جميع زيجات رسول الله ﷺ لأهداف سامية بعيدة المدى فقد رفعت هذه الزيجات من شأن زوجاته من جهة ومن جهة أخرى وطدت الأواصر مع أقاربهن وقبائلهن مما جلب السلام وساهم في نشر رسالة الإسلام، وبعد انتصار الإسلام وفتح مكة، ساهمت زوجات الرسول ﷺ بنقل أحاديثه وسنته إلينا وعلمن الصحابة والتابعين أمور الدين، رضي الله عنهن جميعًا. لكن فضل رسول الله ﷺ على المرأة المسلمة لم يقتصر على زوجاته فقط بل إنه مستمر ليوم القيامة.