القرآن الكريم: دستور لقواعد السلوك ومصدر للأخلاق والآداب



 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، والنور المبين، والشفاء النافع. عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول "الم" حرف، ولكن ألف ولام وميم" (المستدرك على الصحيحين).

القرآن الكريم دستور لكافة مجالات الحياة، لكنني سأركز بشكل خاص حول كيف وضع القرآن الكريم الأساس للأخلاق والآداب وحسن السلوك، حيث نظم احتياجات الإنسان الطبيعية كالزواج والأكل والشرب والتواصل الاجتماعي ... إلخ، بحيث جعل منه شخصًا متحضرًا وأخلاقيًا. في الواقع، فإن الأوامر والنواهي القرآنية تنسجم تمامًا مع الطبيعة البشرية لأنها تحرم كل ما ترفضه الطبيعة البشرية.

فيما يتعلق بالزواج على سبيل المثال، قد وضع القرآن الكريم في الآيات 23-25 من سورة النساء قائمة بالنساء التي يحرم على الرجل الزواج بهن. ومن ناحية أخرى، قد حرم الإسلام الزنا، ولكن بخلاف الوصية الإنجيلية التي تقول: "لا تزنِ" (الخروج 20:14)، يقول القرآن: "وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا" (الإسراء: 33). فالقرآن الكريم لم يحرم فعل الزنا فحسب، بل سعى أيضًا إلى إغلاق كافة السبل التي تفضي إليه. ونظرًا لأن العيون هي المدخل الذي تتسرب من خلاله معظم الأفكار الشريرة إلى الذهن، فإن القرآن الكريم يأمر المؤمنين والمؤمنات بأن يغضوا أبصارهم عندما يلتقون، يقول الله تعالى:
"قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ..... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ....(سورة النور:31-32).
صحيح أن كلمة فُروج الواردة في هذه الآية تعني أجزاء الجسم التي لا يليق بالإنسان إظهارها، ولكنها تعني أيضًا السبل التي يتم من خلالها تسرب الأفكار الشريرة إلى قلب الإنسان وعقله وهذا يشمل جميع أجزاء الجسم وأعضائه، كالعينين والأذنين واللسان واليدين والقدمين.. إلخ. لذلك، على المؤمنين الحرص على حسن استخدام جميع السبل التي يمكن للخطيئة أن تصل من خلالها إلى عقولهم. ومن المذهل بشكل خاص أن القرآن الكريم لم يكتف بذكر هذه السبل تحت مظلة كلمة "الفروج" هذه فحسب، وإنما أعطى أيضًا أوامر أخرى رائعة حول كيف علينا استخدام أعيننا وآذاننا وأرجلنا .. .إلخ.

على سبيل المثال لا الحصر:

علمنا القرآن الكريم كيف نمشي: "وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا" (الإسراء: 38)، "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ" (لقمان:20).
وعلمنا كيف نتحدث: "وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ" (لقمان:20)، "وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا" (الأحزاب:71). "وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا" (النساء:9).
وأمرنا القرآن الكريم أيضًا: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" (البقرة: 84)، و:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ .... وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ..." (الحجرات: 12).
 
ثم قال تعالى وهو يحث المسلمين على حسن معاملة والديهم:
"..فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا..." (الإسراء: 24).
 
وعلمنا القرآن الكريم أيضًا كيف نوجه أنظارنا:
" وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ". (طه: 132).
وعلمنا كيف يجب أن تكون مجالسنا واجتماعاتنا: "وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (الحجرات: 13).
وعلمنا كيف نستخدم آذاننا: "وَّلَا تَجَسَّسُوۡا" (الحجرات: 13).
لا شك أن هذا يعني التجسس على شؤون الناس وعيوبهم، ولكن كلما ازداد الإنسان تقى، تفادى كل ما يمكن أن يعد تطفلًا وتجسسًا. وهنا خطرت على بالي قصة ذكرها ابن الجوزي في كتابه "الأذكياء" حيث قال:
"حَدثنَا يحيى الْمروزِي قَالَ كنت آكل مَعَ الرشيد يَوْمًا فَرفع رَأسه إِلَى خَادِم فَكَلمهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن كنت تُرِيدُ أَن تسر إِلَيْهِ شَيْئا فَإِنِّي أفهم بِالْفَارِسِيَّةِ، فَاسْتحْسن الرشيد ذَلِك مني وَقَالَ لَيْسَ نطوي سرا"
 
يقول الله تعالى:
"وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الإسراء: 37).
في الواقع، لقد قطع القرآن الكريم هنا جميع مصادر الشك من جذورها، وهي بالتسلسل: "الأذن"، و"العين"، و"القلب".
"الأذن": أول طريق تدخل من خلاله معظم الشكوك إلى عقل الإنسان، فالشكوك تنجم بشكل رئيس عن إشاعات لا أساس لها من الصحة يسمعها المرء من شخص آخر.

والمصدر الثاني للظنون هو البصر، حيث يرى أحدهم شخصًا آخر يفعل شيئًا ويفسره بشكل خاطئ. والمصدر الأخير للريبة والشكوك هو العقل المريض الذي يتخيل ويفبرك أشياء لا أساس لها من الصحة، وهكذا يتبين من هذه الآية أننا سنحاسَب على استراق السمع إلى أي شيء لا يحق لنا الاستماع إليه، وعلى رؤية شيء لم يكن علينا رؤيته وعلى تبني أفكار سيئة عن الآخرين لأن اتخاذ الدليل من الأذن أو العين أو القلب فقط لا يكفي للحكم على الإنسان أو لإبداء الرأي فيه.

وعلمنا القرآن الكريم كيف نستخدم أيدينا فقال:
"وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة: 196).
وقال تعالى أيضًا: "وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا" (الإسراء:30).
تعلمنا هذه الآيات الطريقة الصحيحة لإنفاق أموالنا، فلا ينبغي للإنسان أن يكون بخيلًا كما لو كانت يداه مقيدتين إلى عنقه، ولا يجب أن ينفق بإسراف بحيث يهدر ثروته كلها فلا يجد نفسه قادرًا على المساهمة في الإنفاق عندما تكون هناك حاجة وطنية حقيقية للمال. لذلك على المسلمين استخدام أيديهم في الخير فقط. وإضافة إلى الإنفاق، قد كان من شروط بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتورط المؤمنون والمؤمنات بالسرقة: "وَلَا يَسْرِقْنَ" (الممتحنة: 13).
 
كما يأمر القرآن الكريم المسلم بعدم دخول منازل الآخرين دون إخطار ساكنيها أولاً وطلب إذنهم والتأكد من أنهم يرغبون في استقباله:
"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ"(النور:28-29)
لا يضع هذا الأمر القرآني حدًا للتهم المحتملة فحسب، بل يعمل أيضًا على إنقاذ الأشخاص من الظهور في ظروف من المحتمل أن تثير الشكوك.كما يعلمنا أيضًا احترام خصوصية منازل ومكاتب الآخرين.
إضافة إلى ذلك، حدد القرآن الكريم الصفات التي يجب أن نبلغها لنكون من الصالحين. يصف الله تعالى الأتقياء على النحو التالي: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: 135).
 وبالتالي، فإن المتقين لا يقومون بالأعمال الخيرية والإنفاق في سبيل الله فحسب، ولكنهم أيضًا يكبتون غضبهم عندما يساء إليهم. وهم لا يعفون عن المسيء فقط، بل يحسنون إليه أيضًا.
 
لقد بين سيدنا الإمام علي رضي الله عنه صفات المتقين في خطبة له تعرف باسم "خطبة المتقين"، فقالعلى سبيل المثال:
"فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحَزْمًا فِي لِينٍ وَإِيمَانًا فِي يَقِينٍ وَحِرْصًا فِي عِلْمٍ وَعِلْمًا فِي حِلْمٍ وَ قَصْدًا فِي غِنًى وَخُشُوعًا فِي عِبَادَةٍ وَتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَصَبْرًا فِي شِدَّةٍ وَطَلَبًا فِي حَلَالٍ وَنَشَاطًا فِي هُدًى وَتَحَرُّجًا عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِرًا وَيُصْبِحُ فَرِحًا حَذِرًا لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَفَرِحًا بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيبًا أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ، خَاشِعًا قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُورًا أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزًا دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُومًا غَيْظُهُ، الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيدًا فُحْشُهُ لَيِّنًا قَوْلُهُ غَائِبًا مُنْكَرُهُ حَاضِرًا مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِرًا شَرُّهُ فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَلَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَلَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَلَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَلَا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَلَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ. أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزَاهَةٌ وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ وَلَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ." (نهج البلاغة).
 
لا شك أن هذه الصفات لا يمكن أن تتواجد إلا في الذين يتبعون القرآن الكريم بصدق، وخير مثالٍ على ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان القرآن خلقه كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد قالت عنه أيضًا إنه قرآن يمشي. وحيث أن إيماننا هو أن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، فهذا يعني أن الذي كان قرآنًا متحركًا -سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، سيظل أسوة لنا إلى الأبد.