ملخص لخطبة الجمعة الأخيرة التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) من المسجد المبارك في تيلفورد، في 05/05/2023
بسم الله الرحمن الرحيم
فيما يلي ملخص خطبة الجمعة الأخيرة التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) من المسجد المبارك في تيلفورد، في 05/05/2023، والتي استهلها بقوله تعالى:
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"
ثم قال: لقد شرح المسيح الموعود u الحسنات الواردة في هذه الآية وقال:
"تعني هذه الآية أن عليكم أن تراعوا العدل في طاعة خالقكم ولا تكونوا من الظالمين. فكما لا يستحق العبادةَ غيرُه قط، كذلك ما من أحد يستحق العبادة والتوكل من دونه، لأن كل ذلك من حقه هو وحده من حيث الخالقية والقيومية والربوبية. كذلك لا تشركوا به أحدا في عبادته وحبه وربوبيته. فلو فعلتم ذلك فهذا هو العدل الواجب عليكم رعايته.
وإذا أردتم أن تتقدموا على ذلك فهناك مرتبة الإحسان؛ وهي أن تعتقدوا بعظمته وتتأَدَّبوا في عباداتكم، وتفنوا أنفسكم في حبه كأنكم رأيتم عظمته وجلاله وحسنه الأبدي. ثم تأتي درجة إيتاء ذي القربى؛ وهي أن تكون عبادتكم وطاعتكم منزّهة ومبرأةً تماما من التكلّف والتصنّع، وتذكروه U بعلاقة قلبية كذكركم آباءكم، وأن يكون حبكم له كحب الولد لأمه الحبيبة.
ومعنى الآية من المنطلق الثاني أيْ من منطلق مواساة البشر، هو أنِ اعدِلوا مع إخوتكم وبني البشر بوجه عام، ولا تأخذوا منهم أكثر من حقكم، وتمسكّوا بالعدل.
أما إذا أردتم أن تتقدموا أكثر من هذه الدرجة أيضا فهناك درجة الإحسان بعدها؛ وهي أن تحسن إلى أخيك الذي أساء إليك، وتريحه مقابل إيذائه لك، وتأخذ بيده مواساة له وإحسانا.
ثم تأتي درجة إيتاء ذي القربى؛ وهي أن كلّ ما أحسنتَ إلى أخيك وإلى بني البشر، يجب ألا يكون نابعا من نية المنَّ عليهم، بل ينبغي أن يصدر بصورة طبيعية دون أن يكون هناك مطلب مستقبلي في الحسبان، بل ينبغي أن يصدر منك على غرار إحسان قريب إلى قريبه نتيجة حماس ناتج عن قرابة متينة".
ويقول المسيح الموعود u أيضًا:
"ومعناها فيما يختص بحقوق الله U أن نطيع الله متمسكين بالعدل لأن من خلقَنا وربّانا وما زال يربينا يحق له أن نطيعه، وإذا أبصرنا أكثر فلا نطيعه مراعين حقوقه فحسب بل نطيعه ملتزمين بالإحسان لأنه محسن ونعماؤه لا تعد ولا تحصى، والظاهر أن طاعتنا له - عز وجل - محسنين أكبر درجةً من العدل، ويُظهر إمعان النظر الدائم في الإحسان صورة المحسن وشمائلَه للعيان، فمن تعريف الإحسان أن نعبد الله U كأننا نراه، وينقسم الذين يطيعون الله إلى ثلاثة أقسام حقيقة: أولاً، من لا يشاهدون الإحسان الإلهي بوضوح بسبب استتاره والأسباب الظاهرية، ولا ينشأ في هؤلاء الحماس الذي ينشأ بالنظر إلى عظَمة الإحسان ولا يتحرك فيهم الحب الذي يتحرك بتصور عناية المحسن العظيمة، ويقبلون حقوق الخالق بنظرة إجمالية فقط، ولا يوجهون أبدًا أبصارهم إلى تفاصيل الإحسان الإلهي التي تُظهر المحسن الحقيقي للعيان لأن غبار التوكل على الأسباب يمنعهم من رؤية وجه المسبب الحقيقي الكامل، ولذا لا يتيسر لهم النظر الصافي الذي يُريهم جمال المعطي الحقيقي كاملاً، وإن معرفتهم الناقصة تشوبها شائبة الاهتمام بالأسباب، ولا يلتفتون إلى الله - عز وجل - بالالتفات الواجب عند مشاهدة الإحسان ذلك الالتفات الذي يُبدي صورة المحسن للعيان لأنهم لا يقدرون على رؤية إحسانه جيدًا وتكون معرفتهم مكدرة، وسبب ذلك أنهم يتوكلون على جهودهم وأسبابهم ويؤمنون تكلفًا فقط بأن حق الله الخالق والرزاق واجب عليهم، ولأن الله U لا يكلف نفسًا إلا وُسع فهمها فلا يريد منهم ما برِحوا في هذا المقام أن يشكروا حقوقه U، والمراد من العدل في الآية " إن الله يأمر بالعدل" طاعة بمراعاة العدل.
وهناك درجة من المعرفة أعلى من هذه الدرجة وهي أن يرى الإنسان يد فضل الله - عز وجل - وإحسانه منزهًا إياها عن الأسباب، ويخرج الإنسان في هذا المقام من حجاب الأسباب وتبدو الكلمات التالية "إني حصدت ما زرعت"، و"نجحت بسبب بذل جهودي"، أو " نجوت من الهلاك بسبب خبرة عمرو" باطلةً وحقيرةً، ولا يتراءى له إلا وجود واحد وقدرة واحدة ومحسن واحد ويد واحدة، ثم يرى إحسان الله - عز وجل - بنظرة صافية لا تشوبها ذرة من شِرك الأسباب به.
وهناك درجة أعلى من هذه الدرجة سمّاها القرآن المجيد بـ"إيتاء ذي القربى" وشرحُها هو عندما يشاهد الإنسان الإحسان الإلهي لمدة طويلة دون إشراك الأسباب ويعدّ الله جل جلاله حاضرًا ومحسنًا مباشرًا ويعبده فينشأ الحب الذاتي في نهاية المطاف له U بسبب هذه التصورات، لأن مشاهدة الإحسان المتواتر المستمرة تؤثر في قلب الإنسان المحسَن إليه بالضرورة ويمتلئ هذا الإنسان شيئا فشيئًا بحب ذاتي لمحسِنه الذي أحاطت به إحساناته اللا محدودة.
وهنا لا يعبد الأولُ الأخيرَ اعترافًا بإحساناته بل يترسخ حبه الذاتي في قلبه، كما يحب الولد أمه بحب ذاتي، وحينئذ لا يرى اللهَ U عند عبادته فحسب بل يستمتع برؤيته كالعشاق الصادقين وتزول منه كل الأغراض النفسانية ويحل محلَّها الحب الذاتي، وهذه درجة سماها الله U بـ"إيتاء ذي القربى" وأشار إليها في الآية التالية ]فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا[ فملخص الكلام أن تفسير الآية ]إِنَّ اللهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى[ هو أن الله U قد بيّن فيها المراتب الثلاث للمعرفة الإنسانية وعدَّ المرتبة الثالثة مرتبةَ الحب الذاتي، وتحترق فيها جميع الأغراض النفسانية ويفعم القلب بالحب كما تمتلئ القارورة بالعطر.