السؤال: لقد وعد القرآن الكريم بأن الأرض المقدسة ستعطى لعباد الله الصالحين. سؤالي أمير المؤمنين هو أن الفلسطينيين يواجهون حاليًا ظلمًا كبيرًا فمتى برأيكم ستمنح هذه الأرض للمهتدين والصالحين، وهل سيعم السلام الحقيقي؟



 

من اللقاء الافتراضي للواقفات الجدد من بلجيكا مع أمير المؤمنين حضرة خليفة المسيح الخامس (أيده الله تعالى بنصره العزيز) بتاريخ 19/11/2023:

 

الجواب: "سيحدث هذا عندما يهتدي الناس ويصبحون عبادًا صالحين وعندما يتزايد عدد الأحمديين. وإذا قرأت الركوع الأول من سورة بني إسرائيل سترين ذكر ذلك وتفسيره هناك. لقد قال الله تعالى إن اليهود سيحصلون على هذه الأرض مرتين؛ سيأخذونها في المرة الأولى، ثم سيرتكبون الفواحش، ويتمردون، ويبتعدون عن أوامر الله تعالى، ويرتكبون المظالم التي بسببها ستؤخذ منهم الأرض، وهذا ما حدث في العصور السابقة عندما استولى أحد الحكام على هذه الأرض. ثم أقرهم الله تعالى هناك مرة أخرى؛ ومع ذلك، لم تُمنح لهم الأرض، بل عاشوا هناك أثناء الإمبراطورية الرومانية. ولم يأخذوا الأرض مباشرة إذ كان هناك أيضًا مسيحيون يعيشون هناك وكذلك يهود في الإمبراطورية الرومانية مؤمنين بالتوراة. ثم خسروا الأرض مرة أخرى، وأصبحت تحت حكم المسلمين. ثم حصلوا على الأرض مرة أخرى. وهذا يعني أنه لم يظهر بعد عباد الله الصالحين من بين المسلمين أيضًا. وبالتالي علينا أولاً أن نكون عبادًا صالحين ومتقين في نظر الله. ولا ينبغي أن نعتبر أنفسنا من الصالحين والمتقين، أو أننا بقولنا "لا إله إلا الله محمد رسول الله" يحق لنا نيل وعود الله تعالى. إن وعود الله تعالى تنطبق علينا أيضًا عندما نعمل صالحًا، ونؤدي حقوق الله تعالى، وحقوق خلقه، وعندما نجتهد في تنفيذ أوامر الله تعالى. لقد أرسل الله تعالى المسيح الموعود (عليه السلام) في هذا العصر لأن المسلمين قد نسوا تعاليم الإسلام التي جاء بها رسول الله ﷺ ولم يعودوا يتبعونها. وهكذا، كان عليه تقديم التعاليم الحقيقية أمامهم وإخبارهم أن عليهم العمل بموجب تعاليم الإسلام الحقيقية وتأسيس الجماعة. وهذا بالضبط ما فعله الله تعالى من خلال المسيح الموعود (عليه السلام). وقد تنبأ بذلك القرآن الكريم في سورة الجمعة، وتنبأ به رسول الله ﷺ في الحديث المتعلق بزمن ظهور المسيح والمهدي. والآن، وقد حكم اليهود [هذه الأرض] فإنهم إذا ارتكبوا المظالم مرة أخرى، فهناك وعد قائم من الله تعالى بأنه سيأخذ الحكم منهم. متى سيحدث هذا؟ ومتى سيأتي "العباد الصالحون" الله تعالى أعلم.

عندما يظهر "العباد الصالحون" من بيننا، فإننا سنحصل على الأرض. "عباد الله الصالحين" تشير إلى الأشخاص الذين سيكونون مصلين ويعملون الصالحات؛ ولا يأخذون [الأرض] بالسيف. عندما جاء المسيح الموعود (عليه السلام) أنهى الحرب والقتال بحسب نبوءات رسول الله ﷺ الواردة في الحديث. وهذا يعني أن علينا أن نركز أكثر على الدعاء. فإذا دعينا الله وقمنا بالصالحات وأدينا حقوق الله تعالى وحقوق خلقه، فإننا سننجو من هؤلاء الظالمين. لذا، يجب على الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وعلينا جميعًا أن نفكر كيف يمكننا أن نصبح عبادًا صالحين. وعلينا أن نصبح كذلك باتباع إمام هذا العصر. أو على الأقل أن تكون حالتنا بحيث يرضى الله تعالى عن أعمالنا. وبعد ذلك سوف يستعيدون أرضهم. ولكن، وبسبب المظالم التي يرتكبونها الآن، فمن الواضح أن هذه الأرض سيتم انتزاعها [من اليهود]. متى سيتم ذلك؟ لا يعلم ذلك إلا الله.

وبعد ذلك ستعطى للمتقين. الذين يؤدون حقوق الله. وبرأيي ستكون غالبيتهم من المؤمنين بالمسيح الموعود (عليه السلام) في هذا العصر. إن هذه المظالم التي يرتكبونها ضد الفلسطينيين ستؤدي إلى خرابهم. لقد أرسلت لهم الرسائل عبر مختلف الوسائل وفي مناسبات عديدة. وهذه التعاليم موجودة في الزبور، وقد وردت نفس التعاليم في سورة الأنبياء. وإذا كنت ترغبين في قراءة تفسيرها وإذا كنت تفهمين اللغة الأردية، فيمكنك قراءته في التفسير الكبير. وهذا موجود في سورة الأنبياء وفي الآيتين من الركوع الأول من سورة بني إسرائيل. وستجدين هذا الأمر مشروحًا بتفصيل كبير، وستجدين أيضًا إشارات من الكتاب المقدس فيما يتعلق بالوصايا التي أعطيت لليهود. ليس هناك وقت كافٍ الآن، لأن النقاش طويل. اقرأي المقطعين؛ الركوع الأول من سورة بني إسرائيل ومن سورة الأنبياء. وقد كتب حضرة المصلح الموعود (رضي الله عنه) تفسيرًا ممتازًا للآيتين من سورة بني إسرائيل والآية من سورة الأنبياء. بل على لجنة إماء الله والجماعة أن يستخرجوا تفسير هذه الآيات ويوزعوها على الأعضاء. وفي ظل الظروف الحالية، فهي معاصرة ووثيقة الصلة بما يجري وهي متوفرة باللغتين الإنجليزية والأردية."

 

وهكذا وبناءً على توصية أمير المؤمنين أيده الله تعالى بنصره العزيز، نقدم لكم الآن تفسير الآيات المعنية من سورة بني إسرائيل وسورة الأنبياء من التفسير الكبير لسيدنا المصلح الموعود رضي الله عنه.

 

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (5)

شرح الكلمات:

قضينا: قضى الشيءَ: أعلمَه وبيّنه (الأقرب). راجع لمزيد التفصيل شرح الآية رقم 66 من سورة الحِجر.

لَتَعْلُنَّ: علا الشيءُ: ارتفع. علا فلان في الأرض: تكبَّرَ وتجبَّرَ. علا فلانًا: غلبَه وقهَره. علا فلانًا بالسيف: ضرَبه. علا المكانَ: صعِده: علا في المكارم: شرُف (الأقرب). فالمراد من قوله تعالى {ولتعلُنَّ} أنكم ستتكبرون وتتجبرون حتمًا.

التفسير: يحذر الله تعالى هنا المسلمين بأن رسولكم مثيلٌ لموسى، وتحقيقًا لهذه المماثلة سوف نعطيه القدس وما حولها؛ فحذارِ أن يحصل معكم فيما بعد ما حصل بقوم موسى بني إسرائيل. لقد حذّرناهم سلفًا أنهم سيعيثون في الأرض فسادًا، ويرتكبون ضد الناس مظالم بشعة مرتين، وعقابًا على جرائمهم سوف ندمّرهم أيضًا مرتين. مع العلم أن عقابهم لم يُذكَر هنا صراحة، ولكنه مذكور في الآية التالية بكل وضوح.

أما قوله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} فيؤكد أمرين: الأول أن الكتاب هنا هو كتاب موسى - عليه السلام -، والثاني أن كتابه سبق أن أنبأ عن طغيان بني إسرائيل مرتين، ثم تعرُّضِهم لعذاب الله.

لقد وقع المفسرون القدامى والمعاصرون في خطأين لدى تفسير هذه الآية حيث اكتفت جماعة منهم بذكر بعض الأحداث التاريخية عن هلاك بني إسرائيل (القرطبي، والقاسمي)، دون أية إشارة إلى ما يوجد في أسفار أهل الكتاب من الأنباء عن فسادهم وهلاكهم التي أشار إليها القرآن الكريم هنا، مما حال دون انكشاف صدق الوحي القرآني كما ينبغي. أما المفسرون الذين حاولوا ذكر تلك الأنباء من أسفار أهل الكتاب (فتح البيان، والبحر المحيط) .. فلم ينتبهوا إلى أن الكتاب المشار إليه في قوله تعالى {في الكتاب} هو كتاب موسى دون الأسفار الأخرى. أما أنا فقد راعيتُ في تفسيري الأمرين كليهما، فنقلتُ هذه الأنباء من كتاب موسى - عليه السلام -، مع تسجيل الأحداث التاريخية التي تحققت بها هذه الأنباء.

وإليكم ما ورد في كتاب موسى - عليه السلام - من نبأ عن فساد بني إسرائيل وبغيهم على الناس: "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهِك لِتَحرِصَ أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم .. تأتي عليك جميعُ هذه اللعنات وتُدركك". (تثنية 28: 15)

لقد قال بعض المفسرين أن الخطاب هنا يتعلق بعصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أي موجَّهٌ إلى قومه (فتح البيان)، ولكني أراه متعلقًا بزمن موسى - عليه السلام - وموجَّهًا إلى قومه؛ لأن الآية التالية أيضًا تتحدث عن هؤلاء، حيث نبّه الله تعالى بني إسرائيل أننا كما نجّينا نوحًا من الطوفان فقد أنجيناكم من البحر، فكونوا عبادًا شاكرين لنا كما كان نوح وأصحابه.

كما أن هذه الآية تحذير من الله للمسلمين بأننا سننجيكم من طوفان المعارضة والعداء الذي سيحاصركم عما قريب، فعليكم أن تشكرونا ولا تتنكّروا لنا.

والفرق بين الأمتين أن قوم موسى - عليه السلام - تَنكّروا لنعم الله تعالى، ولكن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضربوا مثالاً رائعًا عديم النظير في الشكر لله تعالى، وإن كان المسلمون الذين أتوا فيما بعد أيضًا تنكروا لنعم الله تعالى، وفي واقع الأمر قد جاءت هذه الآية تحذيرًا لهؤلاء المسلمين.

 

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (5)

شرح الكلمات:

قضينا: قضى الشيءَ: أعلمَه وبيّنه (الأقرب). راجع لمزيد التفصيل شرح الآية رقم 66 من سورة الحِجر.

لَتَعْلُنَّ: علا الشيءُ: ارتفع. علا فلان في الأرض: تكبَّرَ وتجبَّرَ. علا فلانًا: غلبَه وقهَره. علا فلانًا بالسيف: ضرَبه. علا المكانَ: صعِده: علا في المكارم: شرُف (الأقرب). فالمراد من قوله تعالى {ولتعلُنَّ} أنكم ستتكبرون وتتجبرون حتمًا.

التفسير: يحذر الله تعالى هنا المسلمين بأن رسولكم مثيلٌ لموسى، وتحقيقًا لهذه المماثلة سوف نعطيه القدس وما حولها؛ فحذارِ أن يحصل معكم فيما بعد ما حصل بقوم موسى بني إسرائيل. لقد حذّرناهم سلفًا أنهم سيعيثون في الأرض فسادًا، ويرتكبون ضد الناس مظالم بشعة مرتين، وعقابًا على جرائمهم سوف ندمّرهم أيضًا مرتين. مع العلم أن عقابهم لم يُذكَر هنا صراحة، ولكنه مذكور في الآية التالية بكل وضوح.

أما قوله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} فيؤكد أمرين: الأول أن الكتاب هنا هو كتاب موسى - عليه السلام -، والثاني أن كتابه سبق أن أنبأ عن طغيان بني إسرائيل مرتين، ثم تعرُّضِهم لعذاب الله.

لقد وقع المفسرون القدامى والمعاصرون في خطأين لدى تفسير هذه الآية حيث اكتفت جماعة منهم بذكر بعض الأحداث التاريخية عن هلاك بني إسرائيل (القرطبي، والقاسمي)، دون أية إشارة إلى ما يوجد في أسفار أهل الكتاب من الأنباء عن فسادهم وهلاكهم التي أشار إليها القرآن الكريم هنا، مما حال دون انكشاف صدق الوحي القرآني كما ينبغي. أما المفسرون الذين حاولوا ذكر تلك الأنباء من أسفار أهل الكتاب (فتح البيان، والبحر المحيط) .. فلم ينتبهوا إلى أن الكتاب المشار إليه في قوله تعالى {في الكتاب} هو كتاب موسى دون الأسفار الأخرى. أما أنا فقد راعيتُ في تفسيري الأمرين كليهما، فنقلتُ هذه الأنباء من كتاب موسى - عليه السلام -، مع تسجيل الأحداث التاريخية التي تحققت بها هذه الأنباء.

وإليكم ما ورد في كتاب موسى - عليه السلام - من نبأ عن فساد بني إسرائيل وبغيهم على الناس: "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهِك لِتَحرِصَ أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم .. تأتي عليك جميعُ هذه اللعنات وتُدركك". (تثنية 28: 15)

ثم أسهب في تفصيل هذه اللعنات وقال: "يَذهب بكِ الربُّ وبمَلِكِك الذي تقيمه عليك إلى أُمة لم تعرفها أنت ولا آباؤك". (المرجع السابق الفقرة 36).

ويضيف: "يجلب الربُّ عليك أُمةً من بعيد مِن أقصاء الأرض كما يطير النسرُ .. أمةً لا تفهم لسانها .. أُمةً جافيةَ الوجه لا تهاب الشيخَ ولا تحنّ إلى الولد؛ فتأكلُ ثمرةَ بهائمك وثمرةَ أرضك حتى تَهلك، ولا تُبقي لك قمحًا ولا خمرًا ولا زيتًا ولا نتاجَ بقرك ولا إناثَ غنمك، حتى تُفنيك. وتحاصرك في جميع أبوابك حتى تهبط أسوارُك الشامخة الحصينة التي أنت تثق بها في كل أرضك. تحاصرك في جميع أبوابك في كل أرضك التي يعطيك الربُّ إلهُك. فتأكلُ ثمرةَ بطنك، لحمَ بنيك وبناتِك الذين أعطاك الرب إلهك في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوُّك. الرجل المتنعم فيك والمترفِّهُ جدًّا تبخل عينُه على أخيه وامرأةِ حِضْنِه وبقيةِ أولاده الذين يُبقيهم .. بأن يعطي أحدَهم من لحم بنيه الذي يأكله، لأنه لم يبق له شيء في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوُّك في جميع أبوابك. والمرأةُ المتنعمة فيك والمترفِّهةُ التي لم تجرّب أن تضع أسفلَ قدمها على الأرض للتنعم والترفُّه تبخل عينُها على رجُلِ حِضْنِها وعلى ابنها وبنتها". (المرجع السابق الفقرات 49 - 56)

ثم يقول: "وكما فرح الربُّ لكم ليحسن إليكم ويكثّركم كذلك يفرح الرب لكم ليُفنيكم ويُهلككم، فتُستأصَلون من الأرض التي أنت داخلٌ إليها لتمتلكها. ويبدّدك الربُّ في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها، وتعبد هناك آلهةً أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من خشب وحجر". (المرجع السابق الفقرات 63 و64)

مع العلم أن هذا النبأ يتعلق بفساد اليهود ودمارهم في أُولى المرتين المذكورتين في قوله تعالى {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرّتينِ}.

وأما قوله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ ... } فيعني أن الله تعالى كان حذّرهم في وحيه من المصيبة التي كانت تنتظرهم، ولكنهم لم يأخذوا حذرهم منها.

واعلم أن التحذير يهدف إلى أمرين؛ الأول: أن يحاول الإنسان التجنبَ من الخطر الذي يحدق به، والثاني: أن تقام عليه الحجة إذا لم يسع للنجاة. ولقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا أمته قائلاً: "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ مَن كان قبلكم" (البخاري: كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتبعن سنن من قبلكم)، وفي رواية: لتتبعن اليهودَ والنصارى؛ ولكن المؤسف أن المسلمين أيضًا استهانوا بهذا الإنذار النبوي فوقعوا فرسى لهذه الآفة.

 

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيد فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (6)

شرح الكلمات:

أُولِي بأسٍ: أُولو هو جمعٌ بمعنى ذوو، لا واحدَ له، وقيل: اسمُ جمعٍ واحدُه ذو كالغنم واحدُه شاةٌ (الأقرب). والبأس: العذابُ؛ الشدةُ في الحرب (الأقرب).

جاسُوا: جاسَ الشيءَ يجوس جوسًا: طلَبه بالاستقصاء، {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ}: دارُوا فيها بالعيث والفساد. وفسّره الجوهري بقوله: أي تخللوا فطلبوا ما فيه كما يجوس الرجلُ الأخبارَ أي يطلبها (الأقرب).

الديار: جمعُ الدار، وهو: المحلُ؛ العَرْصةُ؛ البلدُ. وخلال الديار أي ما حوالي حدودها وما بين بيوتها (الأقرب).

التفسير: يفصّل الله - عز وجل - هنا كيفيةَ تحقُّق النبأ المتعلق بالدمار الأول ويقول: لما حان هذا الدمار سلّطنا عليكم، يا بني إسرائيل، قومًا محاربين، فاقتحموا عليكم بيوتكم ودمّروكم.

والخرابان المشار إليهما في هذه الآية وما بعدها قد ذكرهما القرآن الكريم في موضع آخر حيث قال {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وعيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (المائدة: 79). فتوضح هذه الآية أن العذاب حل بهم مرتين: مرةً بعد عهدِ داود، ومرةً أخرى بعد زمن عيسى عليهما السلام.

وما ورد في التوراة عن هذا الدمار الأول هو أن اليهود ما زالوا بعد موسى في الرقي والازدهار حتى قويت شوكتُهم، وقامت لهم دولة قوية في زمن داود استمرت بعده لمدة من الزمان. ثم دبّ فيها الفساد فأخذت في الاضمحلال شيئًا فشيئًا، حتى قضى عليها الأشوريون الذين كانت عاصمتهم نينوى. فصار اليهود يؤدون لهم الخراج. ثم هزم الأشوريين أميرٌ مصري اسمه "نيكو" ( NECHO)،  وانتزع منهم الحكم، فصار اليهود يعيشون تحت حكم المصريين. ثم قبل المسيح بحوالي 600 عام وبعد داود بحوالي 400 عام حذر الله اليهودَ على مفاسدهم بواسطة إرميا الذي نبّههم أنهم لو تابوا الآن فسوف يُلغي الله وعيد الجلاء، ولكنهم لم يرتدعوا (انظُر إرميا 7: 2 - 7)

وأخيرًا سلّط الله - عز وجل - عليهم البابليين، وقد ورد ذكر هذا العذاب في سفر الملوك الثاني كالآتي: جاء نَبُوخَذْناصَّرُ ملِكُ بابلَ هو وكلُّ جيشِه على أورشليم وحاصَرَها، وطال الحصار؛ وكان ذلك في عهد الملِك صِدْقِيَّا. ولما اشتدّ الجوع في المدينة ثُغرتْ، وهرَب جميعُ رجال القتال ليلاً من أحد الأبواب. وهرب الملِك ولكنه أُسر، فقتَلوا أبناءه أمامه، ثم قلعوا عينيْه هو، وذهبوا به إلى بابل مقيَّدًا بالأصفاد. ثم أرسل الملِك البابلي أحدَ قواده نبوزَرَادانَ إلى أورشليم، فأحرق بيتَ الرب وبيتَ الملِك وكلَّ بيوت أورشليم وكلَّ بيوت العظماء .. أحرقَها بالنار. وجميعُ أسوار أورشليم مستديرًا هدَمها كلُّ جيوش الكلدانيين الذين مع رئيس الشُرَطِ. وبقيةُ الشعب الذين بقُوا في المدينة الهاربون الذين هربوا إلى ملِك بابل وبقيةُ الجمهور سباهم نبوزرادانُ رئيسُ الشرط. (انظُر الملوك الثاني 25: 1 - 11)

ويتضح من سِفر نحميا أن من أكبر أسباب هذا الدمار انتهاكَ اليهود حرمةَ السبت حيث جاء: "فخاصمتُ عظماءَ يهوذا وقلتُ لهم: ما هذا الأمر القبيح الذي تعملونه وتدنّسون يوم السبت؟ ألم يفعل آباؤكم هكذا، فجلَب إلهُنا علينا كلَّ هذا الشرّ وعلى هذه المدينة؟ وأنتم تزيدون غضبًا على إسرائيل إذ تدنّسون السبتَ." (نحميا 13: 17 و18)

كذلك حذّر النبي حزقيال اليهودَ حينها، فقال لهم وهو يعدّد عليهم معاصيهم: "ازدَرَيتِ أقداسي ونجّستِ سُبوتي" (حزقيال 22: 8). وورد فيه أيضًا: "نَجَّسَتا مَقْدِسي في ذلك اليوم ودَنَّسَتا سُبوتي." (حزقيال 23: 38)

لقد ركّزتُ هنا خاصة على ذكر ما يتعلق بمخالفة اليهود السبتَ لأن هذه الآية التي تتحدث عن عذاب شديد إنما تشير إلى قول الله تعالى في سورة النحل {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} (الآية: 125) .. أي أن عذاب السبت إنما نزل على الذين اختلفوا في كلام الله تعالى وأساءوا إلى دينه.

ولا شك أن هذه الآية تشكّل برهانًا ساطعًا على وجود ترتيب رائع في مواضيع القرآن الكريم، فبالرغم من أن سورة الإسراء أسبقُ نزولاً من سورة النحل وأن مكانها في المصحف جاء بعد سورة النحل، إلا أن مواضيعها تتلاءم مع مواضيع سورة النحل بحيث يبدو وكأن سورة الإسراء قد نزلت بعد سورة النحل، وأنها تكملة لها، وتردّ على الأسئلة التي نشأت فيها.

ويقول التاريخ إنه في زمن ضعف دولة اليهود هجم عليهم الأشوريون وانتزعوا منهم الحكم وأخضعوهم لسلطانهم. ولكن بعد فترة جاء أحد الملوك المصريين وهو فرعون نيكو ( Pharaoh Necho)،  فقضى على حكم الأشوريين، ووقعت فلسطين في أيدي المصريين، وجعل الملكُ المصري على أرض فلسطين الياقيمَ  Eliakim (  ابن يُوشِيّا)، الذي حَرّفوا اسمه إلى "يهويقيم". ولما رأى الملك البابلي دمار المملكة الأشورية المجاورة له بعث ابنه نبوخذنصر ( Nebuchadnezzar)  لمحاربة الملك المصري نيكو، فقام بغزو مصر، وهكذا خضعت فلسطين لسلطان البابليين. ولكن المَلِك الفلسطيني "يهويقيم" كان يكنّ الولاء لمصر، فأرسل نبوخذنصر قائدَه نبوزرآدم لمعاقبة "يهويقيم" في 587 قبل الميلاد، ولكن "يهويقيم" مات قبل وصول الجيش البابلي إليه. وأما ابنه "يهويكين" ( Jehoichin)  فلم يستطع الصمود أمام البابليين، وطلب منهم العفو عنه. فأخذوه إلى بابل، وجعل الملكُ البابلي على فلسطين صِدْقِيّا ( Zed chiah) -  واسمه الحقيقي متنياه ( Mattaniah)  وهو أخو يهويقيم - ولكنه أيضًا انحاز إلى الملك المصري حوفرا ( Hophra).  فقام البابليون بمحاصرة العاصمة الفلسطينية سنة 588 قبل الميلاد، وتَمكنوا من صدع سورها بعد سنتين، فلاذ صدقيا بالفرار، ولكنه أُسر وأُخذ إلى بابل بأمر الملك البابلي. وقام البابليون بحرق الأماكن المقدسة اليهودية، وهدموا سور العاصمة، ودمّروها تدميرًا. (التفسير الكبير، سورة بني إسرائيل (الإسراء).

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَن الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (106) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (107) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (108)

شرح الكلمات:

بلاغًا: البلاغ: الانتهاءُ إلى أقصى المقصد والمنتهى؛ التبليغُ؛ الكفايةُ (المفردات).

التفسير: يبين الله تعالى هنا أننا كنّا كتبنا في الزبور بعد ذكر الشروط أن الأرض المقدسة سيرثها عبادي الصالحون، وإن في هذا لرسالة لقوم عابدين. ولقد بعثناك رحمة للدنيا كلها.

أي ينبغي أن لا ينخدع أحد، لدى احتلال بني إسرائيل لهذه البلاد، حول ما تنبأنا به في العهد القديم بأن الأرض المقدسة إنما يعيش فيها عباد الله الصالحون؛ ذلك لأن تلك النبوءة كانت تنطوي على نبأ ضمنيّ أيضًا وهو أن عباد الله الصالحين لا بد أن يصبحوا غالبين على تلك الأرض ثانية وإن خرجت من أيديهم لفترة، حيث قال الله تعالى {إن في هذا لبلاغًا لقومٍ عابدين} .. أي يا محمد بلِّغْ هذه الرسالة المسلمين ونبِّههم أنه سيأتي زمن يحتل فيه بنو إسرائيل هذه الأرض مرة أخرى. لقد ذكر الله تعالى هنا كلمة {عابدين} إشارةً إلى نبوءة داود - عليه السلام - .. حيث قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - نبّأْ عبادي وحذّرهم بأنهم إذا ما تهاونوا في أن يكونوا عبادًا لي فإن الله تعالى سيأتي باليهود إلى هذه البلاد. وإذا حصل ذلك فعلى المسلمين أن يصيروا قومًا عابدين ثانية، فيصبحون غالبين تارة أخرى. وليتذكروا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة لكل العصور، ولا ينتهي عصره عند استيلاء بني إسرائيل على فلسطين، بل إن عصره - صلى الله عليه وسلم - ممتد إلى ما بعده أيضًا؛ فلا داعي للقنوط، لأن رحمة الله ستفور ثانية، فيصبحون غالبين على فلسطين مرة أخرى.

إن نبوءة الزبور التي تشير إليها هذه الآية هي كالآتي:

"لا تَغَرْ من الأشرار، ولا تحسُدْ عُمّالَ الإثم، فإنهم مثل الحشيش سريعًا يُقطَعون، ومثل العُشب الأخضر يذبُلون. اتَّكِلْ على الرب وافعَلِ الخيرَ. اسْكُنِ الأرض، وارْعَ الأمانةَ، وتَلذَّذْ بالرب، فيعطيَك سُؤْلَ قلبِك. سَلِّمْ للربّ طريقَك، واتّكِِلْ عليه وهو يُجرِي، ويُخرِج مثل النُّور بِرَّك، وحقَّك مثل الظهيرة. انتظِرِ الربَّ واصبِرْ له، ولا تَغَرْ مِن الذي ينجَح في طريقه مِن الرجل المُجري مكايدَ. كُفَّ عن الغضب واتْرُكِ السَّخَطَ، ولا تَغَرْ لفعل الشرّ، لأن عاملي الشرِّ يُقطَعون، والذين ينتظرون الربَّ هم يرِثون الأرض. بعد قليل لا يكون الشريرُ. تطّلعُ في مكانه فلا يكون. أمّا الوُدعاء فيرثون الأرضَ ويتلذذون في كثرة السلامة." (المزامير 37: 1 - 11)

ثم ورد فيما بعد: "الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد" (المرجع السابق: فقرة 29).

وليكن معلومًا أن هذا الوعد الذي قُطع مع بني إسرائيل حول الأرض المقدسة لم يكن وعدًا بدون شروط، بل كان منوطًا بشرط البر والتقوى والصلاح، فقيل لهم صراحة بأنهم لو تمادَوا في الشر سادرين في سيئاتهم فسيُنزع منهم هذا المُلك. فقد حذّرهم موسى - عليه السلام - من التمرد والعصيان فقال: "وكما فرَح الربُّ لكم ليُحسن إليكم ويكثّركم، كذلك يفرح الرب لكم ليُفنيكم ويُهلِككم، فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخلٌ إليها لتمتلكها. ويبدّدك الربُّ في جميع الشعوب مِن أقصاء الأرض إلى أقصائها، وتعبُد هناك آلهةً أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك مِن خشبٍ وحجرٍ." (التثنية 28: 63 - 64)

ولكن الله تعالى أخبر موسى - عليه السلام - أيضًا أن بني إسرائيل لو غيّروا ما بأنفسهم فسيُرحَمون. فقد ورد: "يرُدّ الربُّ إلهُك سبْيَك، ويرحمك ويعود فيجمَعك من جميع الشعوب الذين بدّدك إليهم الربُّ إلهُك" (التثنية 30: 3).

وهذا يعني أن بني إسرائيل قد أُخبروا على لسان موسى - عليه السلام - أن تلك الأرض ستُنزع من أيديهم إذا تجاوز شرهم الحدود، ولكن الله تعالى سيرحمهم بعد فترة من الزمان فيُعطيهم هذه الأرض مرة أخرى. ثم بعد ذلك نبّأ الله بدمار آخر لليهود، حيث قيل لهم إنهم سيعودون إلى عصيانهم، فيحل بهم العذاب من عند الله تعالى ثانية، فيُطردون من البلد. وهذا النبأ أيضًا قد أدلى به موسى - عليه السلام - إذ قال:

"أغاروه بالأجانب، وأغاظوه بالأرجاس ..... فرأى الربُّ ورَذَلَ من الغيظ بنيه وبناتِه (وهنا أيضًا ترى أن اليهود كلهم ذكورً وإناثًا قد سُمّوا أبناءَ الله وبناتِه) وقال: أحجُب وجهي عنهم، وأنظُر ماذا تكون آخرتهم. إنهم جيلٌ متقلبٌ. أولادٌ لا أمانةَ فيهم .... أجمَعُ عليهم شرورًا، وأُنْفِذُ سهامي فيهم، إذْ هُمْ خاوُون مِن جوعٍ، ومنهوكون مِن حُمَّى وداءٍ سامٍّ. أُرسل فيهم أنيابَ الوحوش مع حُمَةِ زواحفِ الأرضِ. مِن خارجٍ السَّيفُ يُثْكِلُ، ومِن داخلِ الخُدور الرَّعْبةُ. الفتى مع الفتاة، والرضيعُ مع الأشْيَبِ." (التثنية 32: 16 - 25)

إذًا فإن الله تعالى قد أخبر بني إسرائيل على لسان موسى - عليه السلام - بدمارين يحلان بهم، مبينًا لهم أنهم لن يحكموا هذه البلاد حكمًا أبديًّا، بل سيحكمونها أولاً ثم يُنفَون منها، ثم تقع في قبضتهم ثانية، ثم يُنفون منها تارة أخرى.

أمَا وبأية روعة تحقق وحي الله هذا، فيتضح لنا ذلك بقراءة سورة بني إسرائيل (الإسراء) في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفسِدُنّ في الأرض مرتين ولتَعْلُنّ عُلُوًّا كبيرًا * فإذا جاء وعدُ أولاهما بعثْنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً * ثم رددْنا لكم الكرّةَ عليهم وأمددْناكم بأموالٍ وبنينَ وجعلْناكم أكثر نفيرًا} (الإسراء: 5 - 7) .. أي أننا أنذرنا بني إسرائيل في التوراة صراحة أنكم ستعيثون في هذه البلاد فسادًا مرتين وتتمردون تمردًا كبيرًا. فلما حان تحقُّق وعدُ أول هذين الفسادَين سلّطنا عليكم عبادًا لنا شديدي البأس ذوي قوة عسكرية كبيرة، فاقتحموا جميع مدنكم وبيوتكم بفلسطين، ودمروا مملكتكم. وكان هذا وعدًا لا بد أن يتحقق. ثم رددنا لكم قوة الهجوم على العدو ورددنا لكم مُلككم، وساعدناكم بالأموال والأولاد، وزدناكم جمعًا وقوة. ولكنا سننزع منكم هذه البلاد ثانية.

أما الوعد الثاني فيقول الله تعالى عنه {فإذا جاء وعدُ الآخرةِ ليسُوءوا وجوهكم وليدخُلوا المسجدَ كما دخلوه أوّلَ مرة وليتبِّروا ما علَوا تتبيرًا * عسى ربُّكم أن يرحمَكم وإنْ عُدْتم عُدْنا وجعَلْنا جهنم للكافرين حصيرًا} (الإسراء: 8 - 9) .. أي حينما جاء موعد تحقق وعد المرة الآخرة حقّقْنا هذه النبوءة أيضًا، فأعطينا هذه البلاد مؤقتًا لقوم ليسوّدوا وجوهكم ويذلّوا أعزّتكم، ويَدخُلوا المسجدَ كما دخلوه المرة الأولى وينتهكوا حرمته، ويدمّروا كل شيء وكل منطقة تدميرًا.

ولكن ليس بمستبعد أن يرحمكم ربكم، أي أننا سنقرر عندها بإرجاع هذه البلاد، ولكن الله تعالى لم يقل هنا أنه سيرجعها إلى اليهود، بل قال {عسى ربكم أن يرحمكم} .. أي يزيل عنهم وصمة عار لحقت بهم في العالم، أما إذا عادوا إلى شرورهم الأولى فلا بد أن نعود نحن أيضًا إلى سنتنا، فنعذبهم وننزع هذه البلاد منهم، وقد أعددنا جهنم سجنًا للكافرين .. أي سنجعل جهنم سجنًا لكم، أي لن تستطيعوا العودة إلى هذه البلاد بعد ذلك.

لقد تبين من هذه الآيات أن الله تعالى كان قد وعد بأن بلاد فلسطين سيملكها عباد الله الصالحون. وبما أن هذا الوعد قُطع لليهود أولاً فنالوا هذا المُلك، ولكن الله تعالى قد وضع بعض الشروط عند منحه هذه البلاد لليهود، وقال إنها ستبقى في قبضتكم لفترة من الزمان، ثم تنزع منكم. وبالفعل جاءت الجيوش البابلية، فدمرت المعابد، وأبادت المدن، واستولت على البلاد كلها، واستمر حكم البابليين عليها قرابة قرن ونصف قرن من الزمان (الملوك الثاني 24: 10 - 17، وأخبار الأيام الثاني 36: 20 - 21، والموسوعة اليهودية مجلد 9:  Nebuchadnezzar).  ثم تغيرت الحكومة، فاستولى اليهود على البلاد ثانية.

ثم بعد المسيح - عليه السلام - هاجم الرومان البلاد ودمروها تدميرًا. كما خربّوا المسجد، وذبحوا فيه الخنزير. واستمر استيلاؤهم على هذه البلاد طويلا، وأخيرًا تنصَّرَ الملك الرومي نفسه. ولذلك لم يقل الله تعالى هنا إننا نُرجع هذه البلاد لليهود بعد ذلك، بل قال {عسى ربُّكم أن يرحمكم} .. أي سنزيل عنهم وصمة عار لصقت بهم. فلما أصبح الملك الرومي مسيحيًّا صار يؤمن بموسى وداود وغيرهما من أنبياء اليهود. كان ذلك الملك مؤمنًا بعيسى في الحقيقة، ولكن بما أن عيسى - عليه السلام - ينتمي إلى الأمة الموسوية فبدأت الحكومة الرومانية تحترم أنبياء اليهود الآخرين أيضًا. كما احترمت التوراة، بل اعتبرتها كتابًا مقدسًا لها. وكأن الله تعالى شمل اليهود بالرحمة.

ولكن الله تعالى يقول بعد ذلك {وإنْ عُدْتم عُدْنا} .. أي أنكم لو فسدتم وعملتم الشر بعد ذلك، فسننزع هذا المُلك من أيديكم، أي عندها سيأتي المسلمون وتقع هذه البلاد في قبضتهم، ويصيرون مصداقًا لقوله تعالى {عبادي الصالحون}، عندها ستُخلق لليهود الجحيم التي يصلَونها دائمًا.

لقد تبين من هذا التفصيل أن الله تعالى قد ذكر هنا ما يلي:

الأول: أن هذه البلاد ستُنزع من اليهود وتعطى لأمة أخرى.

والثاني: أنها بعد فترة ستعود إلى قبضة اليهود ثانية.

والثالث: أنها ستُنزع منهم مرة أخرى.

الرابع: وأنها ستعاد تارة أخرى، ولكن لا إلى اليهود، بل إلى المسيحيين الذين هم فئة أخرى من الأمة الموسوية نفسها.

الخامس: وأنهم لو أثاروا الشر بعد ذلك - وهنا انضم المسيحيون أيضًا إلى اليهود لأنهم طائفة من طوائف اليهود أصلاً - فإن هذه الأرض ستُنزع منهم وستُعطى لأمة أخرى .. أي للمسلمين. ولكن الله تعالى لم يقل هنا إن هؤلاء سيدخلون المسجد لينتهكوا حرمته؛ ذلك لأن المسلمين يقدسون موسى وجميع الأنبياء - عليهم السلام - الذين بُعثوا تابعين له، كما يقدسون أماكنهم أيضًا، فما كان لهم أن يدخلوا مساجدهم ليرتكبوا فيها تلك الأعمال البشعة التي عملها البابليون والرومان.

وإنه لمن المهازل الغريبة التي تدل على نكران الجميل أن البابليين دمروا بلاد اليهود وانتهكوا حرمة مسجدهم، ولكن الكتّاب الأوروبيين عندما يؤلفون كتبهم فلا أحد منهم يسبّ فيها البابليين، ولا يستنكر أعمالهم البشعة، ولا يتهمهم بأي تهمة. ثم إن الرومان أيضًا عندما استولوا على هذه البلاد ذبحوا في مسجدها الخنزير؛ وقد ألف المسيحيون الكتب حول التاريخ - مثلما قام "غِبن" ( Gibbon)  بتأليف كتابه ( The Decline And Fall Of The Roman Empire) -  ولو قرأت أي كتاب لهم لوجدتهم يقولون لم يوجد في العالم نظير للإمبراطورية الرومانية (الموسوعة البريطانية مجلد 19: الإمبراطورية الرومانية)، مع أنها قد نجّست مسجدهم. أما الأمة التي لم تنجّس مسجدهم فيكيلون لها السباب والشتائم.

لقد فُتحت فلسطين في عهد عمر - رضي الله عنه -، ولما قدم أورشليم خرج القساوسة لاستقباله وسلموا له مفاتيح المدينة، وقالوا له: أنت ملِكُنا الآن، فتعال وصلّ ركعتين في مسجدنا حتى تطمئن أنك قد صليتَ في مكاننا المقدس الذي هو مقدس عندكم أيضًا. فقال لهم عمر - رضي الله عنه - إني لن أصلي في مسجدكم لأني خليفة المسلمين، فأخاف أن ينتزعوه منكم غدًا محتجين بأنه من الأماكن المقدسة عندهم. لذا سأصلي في الخارج حتى لا يُنزع منكم مسجدكم.

فهناك قوم قد قدّموا قربان الخنزير في مسجد هؤلاء، ومع ذلك لا تملّ أوروبا من كيل المدح والثناء لهم، وثمة شخص رفض أن يصلي ركعتي نفل في مسجدهم مخافة أن ينتزعه منهم المسلمون، ومع ذلك نجدهم يسبّونه ليلَ نهارَ. فما أشدّهم نكرانًا للجميل وما أبعَدَهم عن الحياء!

وبعد أن وقعت بلاد فلسطين في أيدي المسلمين كان من الممكن أن يقال إنها لم تبق في أيدي اليهود ولا في أيدي المسيحيين، فما هذا اللغز؟

ولكن التدبر في الأمر يزيل هذا الإشكال. ذلك لأنه حينما يحصل الخصام على شيء، ويقوم مدعون كثيرون يدّعون بالوراثة، فيقول الوارث الحقيقي أنا الوارث، فيصدُر الحكم في حقه. وهذا هو ما حصل هنا. كان الله تعالى يريد أن يعطي هذا المُلك أحدًا، وعُرضت القضية عليه ليصدر حكمه فيما إذا كان المسلمون هم الوارثون لموسى وداود أم اليهود والنصارى، فحكم - عز وجل - بأن المسلمين هم الوارثون الآن لموسى وعيسى؛ فأُعطوا هذا الإرث بحسب هذا الحكم الرباني.

ثم بعد ذلك يقول الله تعالى في سورة بني إسرائيل {فإذا جاء وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفًا} (الآية: 105) .. أي أنه سيأتي بعد ذلك وقت سيُؤتى فيه باليهود من كل أنحاء العالم ويُسكَنون في فلسطين. وقد حان ذلك الآن حيث استولى اليهود على هذه الأرض.

في الفترة الأخيرة كلما ذهبتُ إلى كراتشي أو لاهور سألني المسلمون كيف وقعت هذه الأرض في أيدي اليهود مع أن الله تعالى كان قد وعد أنها ستبقى في أيدي المسلمين؟ فقلت لهم: أين هذا الوعد؟ بل على العكس يقول القرآن إن اليهود سيُسكَنون فيها ثانية. فقالوا في حيرة: لم نسمع ذلك أبدًا! قلت: ليس بينكم أحد قادر على أن يعلّمكم القرآن، فكيف تسمعون ذلك؟ اقرءوا تفسيري تجدوه فيه.

فالوعد الإلهي بأن اليهود سيعودون إلى أرض كنعان مرة أخرى لموجود في القرآن الكريم في قوله تعالى لليهود {فإذا جاء وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفًا} .. أي حين يأتي موعد الزمن الأخير سنجمعكم ونأتي بكم هنا. علمًا أن المراد من {وعد الآخرةِ} هنا وعدُ العذاب الثاني للمسلمين، حيث بين الله تعالى أنه عندما يحل ذلك العذاب بالمسلمين وتخرج الأرض المقدسة من أيديهم للمرة الثانية، عندئذ سيأتي الله باليهود إلى هذا البلد تارة أخرى.

ومن الناس من يعترض هنا ويزعم أنه بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة قد صار الإسلام منسوخًا. وكأن علامة نسخ الإسلام عنده هي أن يستولي {عبادي الصالحون} على الأرض المقدسة، فحيث إن المسلمين لم يعودوا حاكمين عليها فلم يعودوا {عبادي الصالحون}!

وهذا الاعتراض يثيره البهائيون عادة. والغريب أن هذه النبوءة موجودة في التوراة في حق اليهود، ومثلُها موجودة في القرآن الكريم أيضًا في حق المسلمين. ورغم وجود تلك النبوءة قد انتزع البابليون هذه البلاد من اليهود وحكموها قرابة قرن من الزمان، ولكن لم تُنسَخ الديانة اليهودية عندها بحسب عقيدة البهائيين. ثم ظلت فلسطين خاضعة لحكم الرومان الوثنيين منذ زمن تيطس الرومي قرابة قرنين بل ثلاثة قرون من الزمان، ولم تكن تحت حكم المسيحيين ولا اليهود، حتى إن الرومان قدموا قربان الخنزير في المسجد، ومع ذلك يرى البهائيون أن الديانة اليهودية ظلت على الحق. أما الإسلام فصار منسوخًا في تسع سنوات بعد عودة اليهود إلى الأرض المقدسة في هذا العصر! ما هذا السخف وما هذا العداء؟ إذا كانت النبوءات تصبح باطلة هكذا باستيلاء قوم على أرض قوم آخرين، فقد رأيتم، أيها البهائيون، كيف انتزع قوم هذه الأرض من اليهود لقرن من الزمان في المرة الأولى، ثم رأيتم استيلاء الكفار عليهم لثلاثة قرون في المرة الثانية، ومع ذلك لم تعتبروا اليهودية منسوخة، ولا المسيحية ملغاة، ولكنكم تعادون الإسلام لدرجة أنكم جعلتم استيلاء اليهود على الأرض المقدسة تسع سنوات فقط دليلاً على نسخ الإسلام! لو طال زمن استيلاء اليهود على فلسطين الآن بقدر ما طال احتلال البابليين والرومان لها في عهد اليهودية والمسيحية، لجاز لأحد أن يقول إن هذه الأرض قد خرجت من أيدي الإسلام. ولكن ما دام زمن استيلاء اليهود عليها لم يطل حتى عُشر تلك الفترة أفليس هذا الاعتراض دليلاً على العداء البهائي الشديد للإسلام؟

ثم من العجب العجاب أن هؤلاء المعترضين هم البهائيون الذين ينطبق عليه المثل القائل: لا في العِير ولا في النفير. ومع ذلك يطعنون في الإسلام. عند المسلمين مكة، وعندهم المدينة، وهما المركزان الهامان للإسلام. فأنتم البهائيون "لستم في أعلى القدر وفي أسفله" فكيف تعترضون على الإسلام؟ إنكم لا تملكون شبرًا من الأرض التي يمكن أن تعتبروها مركزًا لكم. أما الإسلام فلا تزال عنده مكة والمدينة أيضًا، وهما أهم مراكز الإسلام. أما فلسطين فكانت إنعامًا زائدًا، وإذا خرجت من أيديهم مؤقتًا فما الاعتراض على ذلك؟

لقد بدأت البهائية في عام 1844، ونحن اليوم في عام 1958 .. أي لقد مضت على تأسيس ديانتهم مئة وأربع عشرة سنة. ولكنهم لم يقدروا خلال هذه المئة والأربع عشرة سنة على بناء قرية مقدسة لهم. من الممكن أن يقولوا على ذلك إنهم لم يستطيعوا ذلك لأنهم ليس عندهم دولة. ولكنا نقول إننا نحن المسلمين الأحمديين أيضًا ليس عندنا أي حكم ولا دولة، ومع ذلك كانت عندنا قاديان من قبل، أما الآن فقد عمرنا مدينة ربوة في بضع سنين حيث نجتمع هناك ونؤدي الصلوات. ثم إن لنا قرية أحمدية كاملة على قمة جبل الكرمل بفلسطين اسمها الكبابير. فهلّا يدلنا البهائيون على مكان في العالم كله هو خاص بهم، ويجتمعون فيه مثلنا. فلِم يُبدون بغضهم وحقدهم هكذا ضد الإسلام لمجرد استيلاء اليهود على الأرض المقدسة الذي لم تمض عليه تسع سنين فقط، فيقولون إن هذا يعني أن الإسلام قد صار باطلاً منسوخًا؟ إنهم قد اعتبروا عكّا مركزًا لهم، زاعمين أنه قد ورد في الحديث وفي التوراة أيضًا نبوءة أنهم يملكون هذا المكان. ولكن لا وجود لهم ولا أثر في عكا الآن. فإن زعيمهم شوقي أفندي، الذي كان يقضي معظم أيام السنة في سويسرا بدلاً من عكّا، أيضًا قد تُوفيّ الآن، ولم يتمّ بعد اختيار أي زعيم لهم يأخذ مكانه. ومع ذلك لا يبرحون يثيرون ضد الإسلام المطاعن التي يرتعب منها بعض الجاهلين.

إذًا فما دام حكم البابليين لفلسطين قرابة مائة سنة، وكذلك حكمُ الرومان لها لحوالي ثلاثة قرون، لم يُعَدّ دليلاً على نسخ رسالة موسى وداود عليهما السلام، فكيف يمكن أن يُعَدّ الحُكم اليهودي المؤقت لهذه الأرض، الذي لم تمر عليه إلا بضع سنين، علامةً على نسخ الإسلام؟ كلا، بل إن هذا دليل على صدق الإسلام. ذلك لأن الإسلام نفسه ما دام قد تنبأ بأن المسلمين سيُطردون من تلك الأرض مرة، ليؤتى إليها باليهود ثانية، فلا يمكن أن يُعد ذلك علامة على نسخ الإسلام، بل هو آية على صدقه حيث تحقق ما تنبأ به.

أما إذا قيل: كيف يصح إذًا قول الله تعالى {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون} فجوابه أن الاحتلال المؤقت للأرض المقدسة قد حصل مرتين في الماضي، وقد حصل الآن أيضًا. وعندما نقول "الاحتلال المؤقت" فهو يعني حتمًا أن المسلمين سيدخلون في فلسطين فاتحين ثانية، ويصبحون ملوكًا لها. وهذا يستلزم أن يُطرد منها اليهود، وأن يوفق الله المسلمين أن يقضوا على هذا النظام الذي يقام بمساعدة الأمم المتحدة وأمريكا قضاء نهائيًّا، وأن يأتوا بإخوانهم ويُسكنوهم في هذه البلاد.

واعلموا أن هذه النبوءة مذكورة في الحديث الشريف أيضًا حيث ورد أن الجيش الإسلامي سيدخل في فلسطين، فيفر اليهود منه ويختبئون وراء الأحجار، وكلما مر جندي مسلم بالقرب من حجر قال له الحجر يا مسلم، يا جندي الله، هذا كافر يهودي ورائي، فاقتُلْه. (البخاري، كتاب الجهاد والسير)

عندما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبر لم يكن لليهود في فلسطين وجود ولا أثر، فثبت من ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نبّأ هنا أنه سيأتي زمان يستولي فيه اليهود على هذه البلاد مرة أخرى، ولكن الله تعالى سيجعل المسلمين غالبين عليهم مرة ثانية، فيدخل جيش المسلمين في هذه البلاد، فيتتبّعون اليهود من وراء الأحجار ويقتلونهم. لقد استعملت تعبير "الاحتلال المؤقت" لقوله تعالى {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} .. أي أن فلسطين ستبقى على المدى البعيد في يد قوم هم مصداق لقوله تعالى {عبادي الصالحون}. لذا فلا بد أن يدخل أتباع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذين هم عباد الله الصالحون، هذه البلاد فاتحين، ولن تقدر القنابل الذرية أو الهيدروجينية الأمريكية ولا المعونة الروسية أن تحول دون ذلك. إن هذا قدر الله، ولا بد أن يقع مهما حاولت الدنيا ردَّه.

قد يعترض هنا أحد قائلاً إن الله تعالى يقول هنا {فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفًا} وأنت تقول إن المراد منه "فإذا جاء وعد الزمن الأخير جئنا بكم لفيفًا"، فما دام الله تعالى قد قال من قبل أيضًا في سورة بني إسرائيل {فإذا جاء وعدُ الآخرةِ لِيَسُوءُوا وجوهَكم} مشيرًا إلى هجوم البابليين؛ فلم لا نقول أن قوله تعالى {فإذا جاء وعدُ الآخرة جئنا بكم لفيفًا} .. إنما يشير إلى حملة الرومان تلك؟

والجواب أن هذا غير ممكن، ذلك لأن قوله تعالى {فإذا جاء وعدُ الآخرةِ لِيَسُوءُوا وجوهَكم} جاء في سياق العذاب حيث بين الله تعالى أنه عندما يحين ذلك الوعد سيُهلَكون ويُدمَّرون، أما قوله تعالى {فإذا جاء وعدُ الآخرة جئنا بكم لفيفًا} فجاء في سياق الإنعام حيث بين الله تعالى أنه حينما يأتي وقت هذا الوعد سيأتي بهم الله ويسكنهم في هذه البلاد ثانية. إذًا فكيف يمكن أن يُعتبر نبوءة العذاب إنعامًا؟ فثبت من ذلك جليًّا أن {وعدُ الآخرة} المذكور هنالك هو غير {وعد الآخرة} المذكور هنا. إن {وعد الآخرة} هنالك يعني آخر حلقة من النبوءة المتعلقة بالسلسلة الموسوية، أما {وعد الآخرة} هنا فيعني النبوءة المتعلقة بعصر محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالوعدان مختلفان رغم تشابه الكلمات. أحدهما وعد العذاب، والآخر وعد الإنعام، وشتّانَ بينهما.