الابتلاء داء أم دواء؟



      

عذاب أم تطهير؟

حياتنا ما هي إلا مجموعة من الابتلاءات، تتخللها أوقات من الرضا. ابتلاءات مادية ملموسة تأخذ أحيانًا شكل الخسارة سواء في فقد الأحبة، العمل، الصحة، المال... إلخ.

أو ابتلاءات معنوية، تُسبب ضرر بالغ في القلب والروح. عذاب معنوي يضعك تحت عدسة مكبرة أنت ونفسك الأمارة. وإما تصبر وتحتسب وتغلبها، أو تفقد صبرك فتغلبك.

في الابتلاءات المعنوية على وجه الخصوص، تشعر أن بداخلك شخص أخر، سريع الغضب وسريع الاشتعال، يتطلع دومًا إلى الانتقام، ولكنه لم يعِ بعد أن هذا الانتقام سيكون بتدمير شخصك أنت، وليس أحد آخر.

كُنت أرى هذا النوع من الابتلاءات بعين الضحية المظلومة، وكانت الأنا تلعب دورها في زيادة اشتعال الهياج الداخلي، لتظن نفسك أنك محيط كل شيء، ولا بد أن تنتقم وتثأر. إلى أن رأيتها بعين أخرى عند قراءتي لرواية (موت صغير)، ومع العلم أن هذه القراءة الثالثة لها، ولكن كان فيها العلاج.

في حوار دار بين ابن عربي وتلاميذه، قال فيه:

"فكنت أتذكرها بعد سنوات في درس من الدروس وحولي تلاميذي، فأبكي بينهم فجأة دون مقدمات، فيقولون:

_ما بك يا سيدنا؟

فأقول: تذكرت دينًا فقضيته.

_ ومن دائنك؟

_قضاء الله.

_وما دينك؟

_ ألم فراق أنزله الله عليّ فلم أقبضه في حينه لصغر سني، فظل يحوم بين السماء والأرض حتى حان وقت قضائه، فنزل.

فيسألني أنبههم: ألا يُسقطه عنك الله لصغر سنك؟

_ لو كان يسقطه عني لما قضاه عليّ وهو أعلم العالمين. قضاء الله لا يردّ على أحد، وكلكم يقضي ديون طفولته في رشده. فمن ضاق صدره دون سبب وشعر بالألم دون داع فليعلم أنه دين نسيه هو، ولا ينساه الديان." (1)

فالآلام المعنوية سواء كانت معلومة السبب أو مجهوله فهي قضاء لدين ما، وسبب هذا القضاء في الدنيا ليس بغرض العذاب على قدر ما هو تطهير، وهذا ما أدركته مؤخرًا.

 

الثوائر النفسية قنبلة موقوتة

أصل كل مشكلة ومحنة وابتلاء هي الثوائر النفسية، التي تعتمل بداخلنا وقت ظهور محفز خارجي، تظل تنمو وتكبر بداخلك حتى تُهلكك، ولذلك كان الشرط الثاني من شروط بيعة الجماعة الإسلامية الأحمدية هو:

"ثانيا: أن يجتنبَ قولَ الزور، ولا يقرَبَ الزنى وخيانةَ الأعين، ويتنكب جميعَ طرق الفسق والفجور والظلم والخيانة والبغي والفساد؛ وألا يَدَعَ الثوائرَ النفسانية تغلبه مهما كان الداعي إليها قويًّا وهامّا." (2)

وجاء الشرط الرابع مؤكدًا على ذلك، فيقول:

"رابعا: ألا يؤذيَ، بغير حق، أحدًا من خلق الله عمومًا والمسلمين خصوصًا من جراء ثوائره النفسية.. لا بيده ولا بلسانه ولا بأي طريق آخر." (3)

مما يعني أن الثوائر النفسية حينما تكون شعور مُطلق، لا يتم كبحه في حينه، فإنها ستتطور إلى فعل نؤذي به خلق الله تحت وطأته، وهذا الدرس تعلمته مؤخرًا رغم بيعتي وموافقتي على الشروط العشرة منذ أربعة أعوام مضت.

ربما لو تغيرت نظرتنا للمحن والابتلاءات والعذاب المعنوي، ووعينا هدفها، ونظرنا لها من باب أنها تطهير للنفس والروح، فهذا يكبح عنفوان تلك الثوائر، ويجعلها تتضاءل بداخلنا حتى تختفي.

 

من داخل الشوك، تنبت الزهرة.

"عنْ أَبي سَعيدٍ وأَبي هُرَيْرة رضيَ اللَّه عَنْهُمَا عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه متفقٌ عَلَيه." (4)

"عن ابْن مسْعُود رضي الله عنه قَالَ: دَخلْتُ عَلى النَبيِّ ﷺ وَهُو يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رسُولَ اللَّه إِنَّكَ تُوعكُ وَعْكاً شَدِيداً قَالَ: أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُم. قُلْتُ: ذلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْريْن؟ قَالَ: أَجَلْ ذَلك كَذَلك مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، شوْكَةٌ فَمَا فوْقَهَا إلاَّ كَفَّر اللَّه بهَا سَيِّئَاتِهِ، وَحطَّتْ عنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَحُطُّ الشَّجرةُ وَرقَهَا متفقٌ عَلَيه." (5)

أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا توضح شيء مهم للغاية، وتبرهن على أن كل ابتلاء سواء كان مادي أو معنوي ما هو إلا رحمة من رب العالمين، يمحو الله بها الخطايا، ويرفع عنا بها الذنوب، وترتقي بها النفس في سموات الروحانية، فقط لو نظرنا إليها بعين المكافأة التي تؤكد أن لابد من كل هذا الشوك لنحصل على الزهرة.

ويقول شمس التبريزي في ذلك:

"لا يعني الصبر أن تتحمل المصاعب سلبًا، بل يعني أن تكون بعيد النظر بحيث تثق بالنتيجة النهائية التي ستتمخض عن أي عملية. ماذا يعني الصبر؟ إنه يعني أن تنظر إلى الشوكة وترى الوردة، أن تنظر إلى الليل وترى الفجر. أما نفاد الصبر فيعني أن تكون قصير النظر ولا تتمكن من رؤية النتيجة. إن عشاق الله لا ينفد صبرهم مطلقًا، لأنهم يعرفون أنه لكي يصبح الهلال بدراً، فهو يحتاج إلى وقت." (6)

ربما كل منا يحتاج إلى وقت لأن يدرك هذا الكلام ويُطبقه، يحتاج لخسارة في نفسه ليعلم أننا لسنا رب العالمين لنقول للشيء كن فيكون من خلال انتقام تحركه ثوائر نفسية، ولا نحن أعلى من هذا الابتلاء، بل نحن تحت وطأته إلى أن يكشفه الله عنا، ويجزينا عن صبرنا عليه خير الجزاء.

وليعلم كل منا أن الصبر ليس بالشيء الهين، ولكن على قدر مشقته تنبت زهرته، وهذا ما علمنيه رب العالمين مؤخرًا.

 

المصادر:

1)  رواية موت صغير . لـ محمد حسن علوان. صـ 43.

2)  من وثيقة الشروط العشرة للانضمام للجماعة الإسلامية الأحمدية.

3)  نفس المرجع السابق.

4)  حديث شريف 13/37

5)  حديث شريف 14/38

6)  رواية قواعد العشق الأربعون. لـ أليف شافاق. ص 113