ملخص لخطبة الجمعة الأخيرة التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) من المسجد المبارك في تيلفورد، في 06/12/2024
بسم الله الرحمن الرحيم
نقدم لحضراتكم ملخصًا لخطبة الجمعة الأخيرة التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) من المسجد المبارك في تيلفورد، في 06/12/2024، حيث تابع الحديث عن صلح الحديبية وقال:
غالبًا ما يكون في المعاهدات ثغرات قد تؤدي لاحقًا إلى نتائج مهمة. وهكذا كان في صلح الحديبية، حيث كان هناك نص صريح عن إعادة الرجال المسلمين إلى قريش مكة إن جاؤوا إلى المدينة، لكن لم يكن هناك ذكر إعادة النساء اللواتي يقبلن الإسلام ويأتين إلى المسلمين في المدينة.
بعد فترة قصيرة من المعاهدة، وصلت بعض النساء المسلمات من مكة هاربات من قبضة الكفار إلى المدينة. وكانت أولهن أم كلثوم ابنة الزعيم المشرك عقبة بن أبي معيط، وقد وصلت ماشية بشجاعة، وجاءت النبي ﷺ معلنة إسلامها. وسرعان ما لحقها أقاربها يطالبون بإعادتها مدّعين أن المعاهدة عامة تشمل الرجال والنساء.
لكن أم كلثوم احتجت بأن المرأة جنس ضعيف وفي مرتبة تابعة للرجل، وإعادتها يعني دفعها نحو موت روحي. فقضى النبي ﷺ لصالح أم كلثوم، وأعاد أقاربها. وأيد الله تعالى هذا القرار في آيات قرآنية:
"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ"، فصارت كل امرأة تصل من مكة تخضع لامتحان دقيق للتأكد من نيتها وإخلاصها. فاللواتي يثبت صدقهن وخلوص نيتهن دون أي غرض دنيوي يُسمح لهن بالبقاء في المدينة. وإن كن متزوجات، يُدفع مهرهن لأزواجهن، ثم يصبحن حرائر للزواج من المسلمين.
كانت إحدى شروط معاهدة الحديبية أن أي شخص من قريش يسلم ويأتي إلى المدينة، فإن أهل المدينة لن يمنحوه اللجوء بل يعيدونه. لكن إذا ارتد مسلم عن الإسلام وتوجه إلى مكة، فإن أهل مكة لن يعيدوه.
ظاهريًا، اعتبر هذا الشرط مهينًا للمسلمين، لكن سرعان ما نشأت ظروف أثبتت أنه كان سببَ ضعفٍ لقريش وقوةٍ للمسلمين. كما قال النبي ﷺ منذ البداية: إذا ارتد مسلم من المدينة فسيكون عضوًا منتنًا يجب بتره. لكن في المقابل، إذا خرج شخص من مكة مسلمًا بصدق، فسيكون سببًا لقوة الإسلام أينما كان، وسيفتح الله له طريقًا. فبعد فترة قصيرة من وصول النبي ﷺ إلى المدينة، وصل شخص يدعى أبو بصير، وهو من مكة وحليف قبيلة بني زهرة، مسلمًا وهاربًا من حراسة أهل مكة.
أرسلت قريش رجلين للحاق به، والتمسوا من النبي ﷺ تسليمه وفقًا لشروط المعاهدة. فاستدعى النبي ﷺ أبا بصير وأمره بالعودة. صرخ أبو بصير قائلاً: أنا مسلم، وسيؤذونني في مكة ويجبرونني على الردة عن الإسلام.
فقال ﷺ: "إذا صبرت لله فسيفتح الله لك طريقًا. لكننا مضطرون ولا يمكننا مخالفة المعاهدة بأي حال."
اضطر أبو بصير للعودة مع هؤلاء، لكن كانت هناك مخاوف شديدة في قلبه من الظلم الذي سيتعرض له في مكة وإجباره على إخفاء إسلامه، أو قد يتعرض للقتل.
عندما وصلت القافلة إلى ذي الحليفة، وهي على بعد أميال من المدينة على طريق مكة، اغتنم أبو بصير الفرصة وقتل أحد رؤساء القافلة، وكاد يقتل الآخر الذي هرب بنفسه إلى المدينة قبل أن يلحقه أبو بصير.
عندما وصل أبو بصير مرة أخرى إلى المدينة، قال للنبي ﷺ: "يا رسول الله، لقد سلمتموني لقريش وانتهت مسؤوليتكم، لكن الله أنقذني من القوم الظالمين، وليس عليكم مسؤولية الآن. "قال النبي ﷺ: "وَیْلُ اُمِّه مُسْعِرُ حَرْب لو كان معه أحد"
فلما سمع أبو بصير هذا الكلام فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيأمره بالرجوع على كل حال بسبب الاتفاق، فخرج من هناك سرًّا، وبدلاً من أن يذهب إلى مكة حيث رأى الموت، اتجه نحو ساحل البحر الأحمر ووصل إلى سيف البحر.
عندما علم المسلمون الآخرون الضعفاء والمختفون في مكة بأن أبا بصير قد أنشأ موقعًا منفصلًا، خرجوا تدريجيًا من مكة وانضموا إليه، وكان من بينهم أبو جندل الذي أعاده النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية. وتدريجيًا وصل عددهم إلى ما يقارب السبعين.
وهكذا نشأت دولة إسلامية ثانية إلى جانب المدينة، كانت دينيًا تحت سلطة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها كانت مستقلة سياسيًا. وكان وجود نظام سياسي مستقل ومنفصل داخل حدود الحجاز مصدر قلق لقريش، وبما أن سيف البحر كان قريبًا جدًا من الطريق الذي يؤدي من المدينة إلى الشام، بدأت المواجهات مع قوافل قريش.
أخذت هذه الحرب الجديدة شكلًا خطيرًا بسرعة، لأن قريشًا كانوا قد أُضعفوا بسبب الحرب السابقة، وكانوا أقل عددًا من ذي قبل.
ونتيجة لذلك، سرعان ما استسلمت قريش وطلبوا، من خلال سفارة، من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستدعي المهاجرين من سيف البحر إلى المدينة ويدمجهم في نظامهم السياسي. وطلبوا أيضًا أن يلغي طواعية الشرط في صلح الحديبية الذي ينص على عدم منح المسلمين الجدد من مكة اللجوء في المدينة.
وافق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الطلب وأرسل رسالة إلى أبي بصير وأبي جندل يخبرهم بأن قريشًا قد غيرت المعاهدة وعليهم الآن الانتقال إلى المدينة. عندما وصل رسول النبي إلى سيف البحر، كان أبو بصير مريضًا في حالة حرجة.
أمسك أبو بصير الرسالة المباركة بشغف، وتوفي بعد فترة قصيرة في نفس الحالة. بعد ذلك، وصل أبو جندل وزملاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمشاعر مختلطة من الحزن والفرح. الحزن لأن قائدهم الشجاع أبا بصير، بطل هذه الحادثة، حُرم من تقبيل قدمي النبي. والفرح لأنهم وصلوا إلى قدمي سيدهم ونجوا من المواجهة الدموية مع قريش.
قدم المؤلفون المسيحيون اعتراضين على صلح الحديبية:
الأول: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما استثنى النساء من شروط صلح الحديبية، لم يكن ذلك جائزًا من منظور المعاهدة. لأن ألفاظ المعاهدة كانت عامة تشمل الرجال والنساء.
الثاني: فيما يتعلق بواقعة أبي بصير، خرق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ روح المعاهدة، بل أشار إلى أبي بصير بأنه بدلاً من العودة إلى مكة، يمكنه تشكيل جماعة منفصلة وإنجاز مهمته، وهو ما يعد مخالفة للمعاهدة.
في الرد على هذه الاعتراضات، ينبغي أولاً تذكر أن هذه المعاهدة كانت مع قريش مكة، وهي القبيلة التي ناصبت الإسلام العداء منذ بدايته، واعتادت على الاعتراض والطعن في كل مناسبة. كما أنهم لم يكونوا قبيلة بعيدة، بل كانوا من قبيلة النبي نفسها التي كانت على دراية كاملة بجميع الظروف. وكانت تفاصيل شروط المعاهدة وخلفيتها الكاملة واضحة أمام أعينهم. فإذا لم تعترض قريش – وهي الطرف المعني بالمعاهدة – على هذا الفعل ولم تعتبره مخالفًا للمعاهدة، فكيف يمكن للآخرين أن يثيروا اعتراضًا بعد مئات الأعوام، وقد تخفى عنهم الكثير من التفاصيل الدقيقة، وليس لديهم معرفة كاملة بخلفية المعاهدة؟
علاوة على ذلك، فإن هناك دليلًا قويًا يتمثل في أنه بعد صلح الحديبية، عندما أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسالة دعوية إلى قيصر الروم، وكان أبو سفيان بن حرب – زعيم مكة – متواجدًا في الشام في ذلك الوقت، استدعاه هرقل ملك الروم إلى بلاطه وسأله بعض الأسئلة عن النبي، ومن بينها: "هل خرق محمدٌ أي معاهدة من قبل؟" وفي جواب هذا السؤال، أجاب أبو سفيان – وهو في ذلك الوقت أشد أعداء الإسلام- إنه لم يخرق أي معاهدة قط.